الفساد... الإشاعات واليقين وإنفاذ القانون

صلاح هنية.jpg
حجم الخط

معظم الناس في البلد يرغبون ويسعون إلى أن يكونوا متطوعين للكشف عن الفساد وإبلاغ الجهات المختصة، ويسعون لكي يكون معهم بطاقة عنوانها أصدقاء مكافحة الفساد، وهم لا يقتنعون بدائرة الشك واتخاذ إجراءات وقائية لمنع الناس من الوقوع، بل يسعون أن يقع الجميع ويحاكم ويسجن وتحتجز أمواله وهكذا.. وهناك من يجلس ويضع رجليه فوق بعضهما ليعلن "فلان قرب يوقع!!!" "علان وقع!!!!" "أنتم ماذا تعرفون في الحياة.. أنتم سذج تمر عليكم التمويهات!!!".
وتتسع دائرة هؤلاء المتطوعين لتجدهم دون أي صفة قانونية ولا صلاحيات ولا معرفة مهنية، ينصبون أنفسهم مغموسين بالشأن العام، ولا يضرهم التقاط صورة لبناية قيد التشييد ليعتبروها نموذجاً للفساد، ويلفون ويدورون حول الموضوع، وتتطوع هذه البلدية وتلك بالتوضيح على ذات الصورة والمؤشرات القانونية والهندسية والتنظيمية حسب القانون، ولا يسعدهم هذا الجواب فيذهبون إلى أبعد من ذلك "متورطون من راسهم لأساسهم!!!"، "شفت كيف طعجناهم!!!".
ولا بد من إكمال المشهد وتلبيسه ثوباً طويلاً بأكمام "حقيقة الأمر أنا كرمال مدينتي العريقة قلت للشباب ضبوا الطابق رغم أن لديهم ما يقولونه ويزودون الجهات المختصة به"، فيتصدر الجلسة الكهل الحكيم العارف بالأمور: بالله عليك تطلع هالأوراق وترسلها لجهات الاختصاص وما تثقل نفسك بحمل يتعب ضميرك وصوابية موقفك!!! فيعرف تماماً أن أمره كشف وهو لا يمتلك أي شيء، بل يدخل في دائرة التشهير والإساءة ولو احتجته لقضية حقيقية منتصرة لانفض من حولك؛ لأنه لا يمتلك مقومات الضغط والتأثير والانتصار للقضايا العامة.
المؤسف أن أمثالنا بحسهم الإعلامي ينصحون المؤسسات العامة، مثل البلديات وشركات توزيع الكهرباء ومصالح المياه، بضرورة التوضيح، فيحجمون ويطرحون مبررهم أننا سندخل في سجال نحن في غنى عنه، خصوصاً أن المستهدفين ليسوا راغبين بسماع رأي مهني بل يريدون موافقة واضحة على الاتهام وكفى، وتخطئ المؤسسات العامة عندما تصبح الأمور عكسية أن الفاسد هو من يتهم من كشفوه ولم يعلنوا، بل اكتفوا بوقف العمل مع الجهة المشطوبة لديهم، وهؤلاء يكونون أكثر قوة على تحميل الأمور ما لا تحتمل ومهاجمة الناس؛ لأنهم على ثقة بأنهم لن يردوا عليهم من منطلق أن السجال لا يخدم عمل البلديات والمؤسسات العامة.
المؤسف أن هناك مؤسسات تجند بعض هؤلاء الأشخاص الموهمين بأنهم حماة محاربة الفساد ليكونوا مشوشين على آخرين يتبنون القضايا العامة ومعايير محاربة الفساد بالإجراءات القانونية والتوعية ليضعفوا موقفهم، إلا أن هذه الحيل لم تنجح مرة مع المؤثرين على الرأي العام ورواد الضغط والتأثير في القضايا العامة.
وفجأة ينقلب السحر على الساحر، فيصبح المشوشون عبئاً على المؤسسة نفسها ولا يخدموها ولا يحصنوها، بل تزداد نقاط الضعف وسهولة الهجوم المضاد، وتظهر حقيقية المشوشين للرأي العام بقدرة قادر واحد أحد وخلفياتهم وسوء أعمالهم، وعندها تتجسد العبرة أمام تلك المؤسسات أنها اختارت الحصان الخطأ لمعركتها.
ولعل الدرس الأهم المستخلص هنا يتجلى بوضوح لا يجوز بالمطلق في العمل العام الهيمنة والإقصاء وقمع الرأي المختلف تحت يافطة أنا رئيس المؤسسة وأنا من يقرر، نافياً بذلك أربعة عشر عضواً آخرين هم شركاء في المسؤولية والقرار والدفاع عن القرار، ولا يجوز إقصاء عضو واحد أو تهميشه تحت أي يافطة تختارها.
ليس من الحكمة ترك الأمور على غاربها وفتح بوابة الاتهامات جزافاً لتخويف الناس وردعهم عن العمل من حيث سنحول فاتورة مياه مبالغ فيها إلى قضية رأي عام وننظم حملات احتجاجية ضدك تحرجك ولا فاتورة كهرباء، لأن هذا تخويف وليس عملاً عاماً ولا ينتصر لأي قضية.
لا يعقل أن يجابه النضال المطلبي بتشويهات غير محوكمة بمعنى أنتم تنحازون لطرف ضد طرف آخر لتبرير الخطأ الفادح وسوء التقدير الذي وقع فيه من عيار منع المرضى المؤمّنين من العلاج وصرف الأدوية، أو ارتفاع تكاليف توصيل المياه إلى البيوت والمنشآت بحجة أن القانون يضع بند المساحة للمبنى المنوي التوصيل له ويجب تعديل القانون لتنخفض التكاليف إلى ثلث المبلغ.
ليس مبرراً أمام هجوم المشوشين واستهدافهم أن تقف المؤسسات عاجزة عن توضيح موقفها سواء على صعيد تقديم المساعدات للأسر المشمولة في بوابة المساعدات الموحدة بوزارة التنمية الاجتماعية، أو توزيع الأضاحي وعدم الرد على المشوشين من قبل الجهات الرسمية وترك القضية كأنها قضية شخصية من حصة موظف عام دون غيره!
الدرس الأهم أن التلكؤ في معالجة قضايا الفساد المثبتة والتي يجب إنفاذ القانون بحقهم وضرورة التسريع بالنظر بالقضايا الكبرى التي تهم الرأي العام، والتي أعلن عنها من قبل الجهات المختصة، وليست ضمن تكهنات وإشاعات الرأي العام، رغم أهمية قضايا صغيرة من عيار رشوة في دائرة السير بألف شيكل أو رشوة من مقاول لتمشية أموره بألفي شيكل ولا نعتبرها غير ذات أهمية، بل هي مسار إجباري صوب القضايا الكبرى؛ لأن المجرم الذي استهان بألف شيكل لن يتوانى عن الأكبر فالأكبر فالأكبر، الرأي العام ينتظر حكماً قضائياً بكبش كبير من الكبوش الفاسدة المفسدة.