يفكر الكثيرون منهم بالموت كمخرج..

هارتس: لا يزال شبح الموت يخيم على غزة و الناس يعيشون في حالة اكتئاب

thumb (27)
حجم الخط

 عميره هاس / نواف هو من المحظوظين في غزة ممن يعملون في منظمة دولية. في الاسبوع الماضي حصل على تصريح خروج الى شرقي القدس لبضعة ايام. التقينا صدفة، وعلى الفور انتبهت لعينيه: فهما تشبهان عيون سكان غزة الاخرين ممن خرجوا من القطاع في السنة الاخيرة، والتقيت بهم. التعبير “نظرة منطفئة” وكأنه جاء خصيصا ليصف عيونهم. سلمى، من سكان القطاع، تؤكد في مكالمة هاتفية: هكذا عيوننا جميعا في غزة. حسن زيادة، طبيب نفسي يعمل في مركز الصحة النفسية في غزة، يعرف جيدا هذه النظرة ويقول: من شدة الالم المستمر، من شدة الخوف الفظيع الذي ألم وعلق بنا، فان الناس غير قادرين على البكاء. العيون جافة من الدموع.
 

القطاع مغلق ليس فقط في وجه خروج الاغلبية الساحقة من سكانه، بل ومن الدخول ايضا. وامكانية الاطلاع المباشر على السبل التي يتصدون بها لعبء الفقدان والدمار محفوظة اساسا للمواطنين الاجانب – موظفي المنظمات الدولية، الدبلوماسيين والصحفيين. اما كل من تبقى، بمن فيهم الصحفيون الاسرائيليون من الضفة ومن اسرائيل فيحتاجون الى وساطتهم.
 

وبفضل وساطة “الجزيرة” بالانجليزية عرفنا بمبادرة محلية في حي الزيتون في غزة: ادخال بعض الفرح الى العيون، تلوين الجدران الاسمنتية القاتمة للمنازل بالوان فرحة وملء الزوايا بالنباتات، بما في ذلك غرسات البندورة. جمعية “تامر” للتعليم تتبرع للناس بالفراشي وبالالوان، واحياء اخرى تنوي السير في اعقاب الزيتون. ويرحب زيادة بالمبادرة: هكذا تبنى وتظهر الشراكة، وهكذا يتم التغلب على السلبية، نتيجة الصدمة والفقدان. ولكن هذا جزءا صغيرا من الصورة.
 

صحفي فلسطيني مواطن من دولة غربية سمح له بالدخول الى القطاع ذهل إذ اكتشف كيف اصبح الموت جزءا من الحسابات اليومية “الطبيعية”. واحدة ما روت له بان مدرسة معينة اجرت تعديلات في الصفوف لانه في صف واحد “قتل 12 من التلاميذ” في حرب 2014. أي أن المعطى الثابت كان الموت، اما المتغير – التغيير الذي اضطروا لاجرائه في انظمة الصفوف. ويروي زيادة بان هناك ارتفاع في عدد الناس الذين يفكرون بالموت كمخرج.
 

صحفي غربي آخر روى عن الاطفال الذين ابدوا اعجابا بمسلحي عز الدين القسام في مسيرة عسكرية بمناسبة عام على الحرب. وذهل من وجه الشبه بين جيش حماس والجيش الاسرائيلي وقلق من مجرد التفكير بوقوع حادثة وانفجار سلاح ما في قلب الجمههور. ويروي الاهالي عن أن اطفالهم يبولون في نومهم، يستيقظون من كوابيسهم التي يقفون فيها مشلولين امام وحش يهاجمهم. وعلى أي حال فان بعضا على الاقل من الاطفال الذين تجمعوا لمشاهدة المسيرة يعانون في الخفاء من ذات المتلازمة. ويقول زيادة ان “الاطفال يشعرون بالغضب، يريدون الانتقام، ولهذا فانهم يجتذبون للقوة التي تتجسد في المسيرة العسكرية”.
 

نواف، ابن 45، فكر بان يستغل تواجده القصير في الضفة الغربية كي يتحدث مع طبيب نفسي. وهو لا يعتقد أن بوسعه حقا أن يستعين بطبيب نفسي داخل القطاع (“فهم يعانون من الصدمة مثل الجميع″). ويعرف زيادة جيدا ما يقصده نواف: هو نفسه ثكل أمه، ثلاثة من اخوانه، واحد من اصهاره وابن اخيه الصغير في قصف اسرائيلي واحد على بيت العائلة في مخيم البريج للاجئين.
 

هجوم الجيش الاسرائيلي في صيف 2014 تميز بقصف عشرات المنازل على سكانها. في 70 حالة من قصف المنازل على سكانها والتي وثقتها وحققت فيها “بتسيلم” قتل 606 اشخاص، نحو ربع عموم القتلى الفلسطينيين في الحرب. 93 قتيل من القتلى كانوا رضعا واطفالا صغار حتى سن 5 سنوات. 129 ابناء وبنات 5 حتى 14، 42 فتى وفتاة حتى سن 18، 135 امرأة و 37 امرأة ورجل فوق سن 60. في 20 تموز 2014، في اليوم الذي قصف فيه منزل زيادة، قصف الجيش الاسرائيلي ستة منازل اخرى على عائلاتهم في ارجاء القطاع، وقتل 76 شخصا بينهم 41 طفلا وطفلة و 23 امرأة، ولكن عائلة زيادة حظيت بنشر خاص لان عم زوجة اخيه الهولندية، هانك زنولي، اعلن في اعقاب قتل ابناء عائلته بانه يتنازل عن لقب محب العالم الذي حصل عليه لانقاذه اطفالا يهودا في زمن الاحتلال النازي.
 

زيادة هو طبيب نفسي كبير في مركز الصحة النفسية في غزة. وبين الحين والاخر يحتاج الى مساعدة زملائه في المركز كي يتغلب على ألمه ويواصل بنفسه معالجة الاطفال والكبار الكثيرين الذين يأتون للعلاج الدائم في المركز. ومع ذلك فانه يعتقد بانه بسبب ثكله الشخصي يمكنه أن يفهم جيدا مرضاه وكذا من ليسوا مرضاه.
 

هناك من يوجهون الغضب والخوف نحو أنفسهم، وهذا يعبر عن نفسه بالاكتئاب، بالالام، بالتعلق بالادوية المضادة للاكتئاب. “ر”، باحث ميداني في احدى منظمات حقوق الانسان، يشير الى ظاهرة جديدة. الان النساء ايضا يدمن على الادوية التي تحسن المزاج، وليس فقط الرجال. هناك اناس، يقول زيادة، ممن يوجهون العنف تجاه الخارج.
 

من لم يفقدوا ابناء عائلاتهم، او لم يفقدوا بيوتهم يرون أنفسهم محظوظين مقارنة بالاخرين ويتعاملون مع خوفهم واكتئابهم والتوجه الى تلقي المساعدة بانه “زائد” او “ترف”. وفي نفس الوقت ليس هناك من سبيل للتملص من تسلل ماضي الحرب نحو الحاضر. “بشكل عام يحاول الناس النسيان”، تقول “ح”، طبيبة في وكالة الغوث. “ولكن من فقد احد ما مباشر، كل شيء يذكره به”.
 

كل يوم تسمع ايضا اصوات الرصاص، سواء نحو الصيادين ام نحو المزارعين. وطوال الايام تسمع اصوات الطائرات بدون طيار في السماء. والى جانب الدمار وانعدام اليقين فان هذا يذكرهم “بوجود تهديد حقيقي على الحياة”، يقول زيادة. “في مثل هذا الوضع من القلق والخوف كل الوقت يحتاج الانسان الى آلية تساعده على التغلب واحتمال كل المعاناة التي تغمره. يوجد الدين، كجزء مركزي في ثقافتنا، وفيه العنصر الهام للايمان بالقدر وان هكذا “مكتوب علينا” وهناك صلاة لله لانقاذنا واللطف بنا”.
 

يروي صحفي اجنبي بان رجال حماس يأمرون في المساجد بعدم الحزن على موتاهم. “ح” ترى التكافل الاجتماعي – العائلي الذي لم يفتقد. ولكن “ر” يرى الـ “75 في المئة”، بتقديره، ممن تطلعهم لترك القطاع لعدم وجود مستقبل فيه. وهو يقول: “اعمل من الصباح حتى المساء كي أنسى والا أفكر بالوضع. ولكن ماذا عمن ليس لهم عمل؟ العائلات، مع الكبار العاطلين عن العمل منهم، يثقل انعدام الفعل عليهم كل اليوم. مثل زيادة، هو مقتنع بان الناس يواصلون العيش والتكيف زعما، لانه لا يوجد بديل.
 

هآرتس 24/7/2015