توصيفات تاريخية

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

منذ فترة، وأنا أطالع ما تيسر لي من كتب التراث العربي والإسلامي.. وقد استوقفني العديد من الملاحظات التي لا مجال لذكرها هنا، ولكني سآخذ بعضا منها، مثلا نجد دوما عبارة (بكى حتى ابتلت لحيته) عندما يريد المحرر وصف شخصية ما بالورع والتقوى والعدل... ومن المعروف أن الرجل لا يبكي بسهولة، وربما يبكي لدقائق معدودة في أقصى حالات الشدة والكرب، وإذا ذرف بعضا من دموعه، فهي لا تكفي لتبليل اللحية، خاصة إذا كانت طويلة.. وحتى تبتل اللحية تحتاج بكاء لساعتين على الأقل (ما يعادل تقشير صحارة بصل).. ما يعني أنه مجرد وصف مجازي ينطوي على قدر كبير من المبالغة.. ويقابله في لغتنا الدارجة وصف (فرط من الضحك) لتوصيف ضحكة شخص سمع نكتة، وبالتأكيد هذا الشخص لم ينفرط كالمسبحة.. بل بقي كل عضو في جسمه في مكانه..
وفي وصف آخر ينطلي علينا دون أن ننتبه، عندما يريد المحرر وصف شخص ما بالزهد والتقشف، يقول عنه إنه كان يكتفي بأكل التمر والزبيب والفول والعدس وخبز الشعير.. فنتخيل حينها أن ذلك الشخص تنازل طواعية عن تناول المعكرونة والبيتزا والهمبرغر والمنسف والمفتول والمقلوبة والبامية.. وحرم نفسه من زبدة اللورباك، وجبنة الكيري، وشكولاتة النوتيلا، ولم يضف إلى أطباقه المايونيز والكاتشب، ولم يشرب الكولا والعصائر.. ولم يحلّ فمه بعده بالكنافة والجاتوه والبقلاوة... في حقيقة الأمر إن 90% من أصناف الطعام التي نعرفها اليوم لم تكن معروفة حتى قبل قرن من الزمان.. بما في ذلك أبسط الأصناف مثل البندورة والخيار والكوسا... التي كانت تنمو في مناطق معينة كنباتات برية (الباذنجان ما زال ينمو في الهند كنبات بري)، والأصناف الأخرى كانت غالية الثمن، ولا تتوفر بسهولة مثل الرز، والقمح، والبطاطا ونادراً ما تُصدر خارج أوطانها التقليدية.. ربما كانوا قديما يعرفون الزيت، وخبز الشعير، وأصنافا بدائية من الجبن.. عدا ذلك كان طعامهم يقتصر على المنتجات الحيوانية كاللحوم والحليب والبيض والسمن والثريد (ولم تكن متيسرة لعامة الناس) وبعض أنواع الخضر والفواكه الموسمية وحشاش الأرض.. ما يعني أن المائدة قديما لم تكن تضم سوى عدد قليل جدا من المأكولات.. وإذا وُجد نوع معين خارج القائمة، فسيكون باهظ الثمن، ويحتاج لطرق صعبة من الإعداد والتحضير.. لاسيما أن إشعال النار للطهو لم يكن أمرا يسيرا.. ولا توجد ثلاجات لحفظ الطعام، ولا أواني "تيفال" متعددة الأشكال والأحجام للتحضير والتخزين.. يعني ببساطة كل الناس كانوا زاهدين ومتقشفين.. 
إلى جانب ذلك، فإن كتب التاريخ تتجاهل الكثير من القضايا المهمة والتفاصيل الصغيرة.. مثلا، لا تذكر كيف كان الناس يحلقون شعورهم.. هل يقوم كل شخص بحلاقة لحيته أو شعر رأسه بنفسه؟ أم هناك حلاق في كل مدينة؟ كم كانت تكلف الحلقة؟ من اشتهر بهذه الصنعة؟ وأيضا، لا تذكر كيف كان الناس يتخلصون من نفاياتهم.. وأين يلقون بها؟ فلم تكن هناك بلديات، ولم نقرأ عن نظام معين لحل هذه المشكلة.. وكذلك الأمر بالنسبة للمراحيض، فإذا علمنا أنه في وقتنا الحاضر هناك مئات الملايين من البشر دون مراحيض، أي أنهم يقضون حاجتهم في الخلاء! فكيف كان الوضع قديما؟ ومن المعروف أن المرحاض من الاختراعات الحديثة، فحتى سنوات الخمسينيات من القرن الماضي كان معظم البيوت دون مراحيض، وعندما بدأ الناس يهتمون بهذا الموضوع، كانوا يبنون المرحاض خارج البيت.. يُقال إن بغداد زمن العباسيين كان لديها شبكة مجارٍ عامة.. ونعلم أن المدن العريقة كانت تحتوي على حمامات عامة (للاغتسال).. ولكن لا نتصور أن المواطنين كانوا يذهبون إليها كل صباح.. وحتى لو افترضنا ذلك، ماذا بشأن البلدات والقرى والمدن الكثيرة التي لا تمتلك هذه الميزة؟ ماذا بشأن سكان البادية؟ يعني إذا شخص أراد تلبية نداء الطبيعة في الليل البهيم، أين يذهب؟ طيب المشكلة محلولة في الصحراء الواسعة، ماذا بشأن سكان المدن والقرى؟ والمشكلة أن المياه شحيحة، ولا يوجد أي نوع من الصابون والشامبو.. ولا هاربك ولا ديتول، ولا أجاكس.. 
نفس الأمر ينطبق على الملبوسات والمطبوعات وأثاث المنزل وأدوات المطبخ وأدوات التسلية والرعاية الصحية والتعليم.. لنأخذ مثلا مسألة سهر الليالي (مش أغنية فيروز، بل كيف كان ناس يقضون أمسياتهم).. خاصة إذا تذكرنا أنه لم يكن حينها كهرباء، وبالتالي لا يوجد تلفزيون، ولا فيسبوك... وبما أنه لم يكن حينها أيضا لا غاز ولا كاز، فكانوا يوقدون فوانيسهم على الزيت، أو على الشموع، وكان لا بد من الاقتصاد في إشعالها.. ما يعني أن معظم البيوت مضطرة لأن تنام بعد غروب الشمس بقليل، أو تنتظر ليالي البدر لتحظى بسهرة جماعية.. وهذه السهرات كان تتمثل بوجود شخص ما يجيد سرد الحكايات وقول الشعر.. والمستمعون مُجبرون على تصديقها، حتى لو كانت أساطير وخراريف.. وبما أن أغلبية الناس كانوا أميين (في مكة مثلا قبل مجيء الإسلام كان عدد الذين يعرفون القراءة الكتابة لا يتجاوز العشرين، في البادية في كل قبيلة شخص واحد أو اثنان)، وبالتالي كان الاعتماد على الذاكرة.. فنتوقع مثلا في السهرة أن يطلب المستمعون مقطعا من قصيدة للأعشى، أو فصلا من قصة كُليب، أو عزفا منفردا على الناي.. وفي المدن العريقة في مراحل لاحقة كان سادة القوم يحظون بسهرات مع الجواري، ودندنات على العود.. لكن أغلب الناس عاشوا وماتوا دون أن يسمعوا أغنية أو قطعة موسيقية، أو يشاهدوا فيلما.. وعندما ينتهي أي عالِم من مؤلفه يوكل مهمة طباعته لعدد من النساخين، يمضون أشهراً عديدة لإنجاز نسخة أو أكثر.. ما يعني أن كتبهم ومخطوطاتهم ظلّت للنخبة فقط.. 
اليوم عندما نشاهد فيلما أو مسلسلا تاريخيا نرى الفرسان وهم يرتدون عمائم ودشاديش بيضاء ناصعة مكوية، كأنها خرجت للتو من "الدراي كلين".. وجوههم ناعمة محفوفة، لحاهم مهذبة.. هل لأن الممثلين يرفضون التنازل عن مظهرهم الوسيم؟ أم أن المخرج أراد إظهار الوجه الجميل من حضارتنا؟ أم أنهم مثل مؤلفي الكتب التاريخية لا ينتبهون لتلك التفاصيل؟ أو يشتركون معهم في عملية تزييف التاريخ، بقراءة انتقائية.