في سياق النصيحة: حماس وضرورات الفصل بين السياسي والعسكري!

thumb (1).jpg
حجم الخط

 

الأوضاع الأمنية والسياسية وحتى منظومة العلاقات العربية والإسلامية في المنطقة تتسارع بشكل يبعث على الخوف والقلق على مستقبل قضيتنا الفلسطينية، وأيضاً على طبيعة الاستهداف الذي قد يطال الإسلاميين وخاصة حركة حماس، فالتحالفات بين دول المنطقة أصبحت لها معايير مغايرة لكل ما كان سائداً تاريخياً من عقيدة أمنية وعقد اجتماعي فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل ككيان استعماري استيطاني غاصب مطلوب تضافر الجهود لإزالته أو تفكيك منظومته السياسية، وصارت الحسابات اليوم مرتبطة بالموقف من إيران (مع أو ضد) وليس إسرائيل!! وكذلك في الرصد والمعاينة لأشكال التواصل، واتجاهات حبال الوصل والمودة، من حيث التمدد نحو قطر وتركيا أو السعودية ودول خليجية أخرى.

هذه الأجواء تعيدنا في معركة الحفاظ على الوجود وحمايته للبحث عن وسائل لتدبير مستقبلنا، والتخذيل عن أنفسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

نعم؛ المسألة تحتاج إلى الكثير من الجهد وإعمال العقل للخروج برؤية "أقل الخسائر"، وهي أشبه بحالة الانحناء للعاصفة بدل الانكسار والتفتت.

ما أطرحه هنا ليس جديداً، فلقد سبق لي أن تناولته قبل عدة سنوات وفي ظل ظروف حركية وإقليمية أفضل، ولكني أعيده اليوم من باب الأمانة والنصيحة والحرص على حركة حماس، بعدما تعاظمت حالة التآمر والتكالب عليها، وأصبح الخطر الذي يتهددها له صوت مسموع ووقع خطوات (Hoof beats) لا يمكن تجاهلها، أو قمع الحديث عنها بين نخب الحركة وكوادرها.

الجمع بين الدعوي والسياسي والعسكري

إن التجارب الإسلامية الناجحة للفصل بين الدعوي والسياسي، والتي شاهدناها في المغرب تُحفز على التفكير بمثل هذا التوجه، وكذلك فإن نجاحات حزب العدالة والتنمية في تركيا تُشجع هي الأخرى على سلوك هذا الدرب، والمضي قُدماً فيه.

لقد قدمت مقترحاً في عام 2006 لحركة حماس حول ضرورة إنشاء حزب سياسي أو تحول ذراعها السياسي "التغيير والإصلاح" لحزب سياسي، ولكن – آنذاك - لم يكن هناك قناعة بالفكرة أو حتى استحسان لها، فنشوة الانتصار بالكسب الانتخابي كانت موجتها عالية ومواجهتها خاسرة، ولكني لم أترك ما آمنت به بل بقيت أذكر بها من حين آخر.

ومع قناعتي المطلقة بالفكرة، وضرورة عدم إشغال كل مكونات الحركة الإسلامية بمشهد الحكم والسياسة، وأهمية الاستفادة من تجارب شعوب عربية وإسلامية أخرى سبقت بمثل هذا الفصل بين الدعوي والسياسي، وحققت النجاح والتمكين، إلا أن فضاءات الرؤية في ساحتنا ما تزال ضبابية، وهناك غالبية تتمنع، وإن كان الكثير من الكوادر الشبابية عالية الثقافة غدت تؤمن بالفكرة، وتتحدث عنها وتطالب بمثل ما ندعو إليه.

خلال السنتين الماضيتين، وخاصة بعد الانتخابات التنظيمية الأخيرة، والتي صاحبها بعض الهرج والمرج، حيث تعالت أصوات البعض بضرورة المكاشفة والعمل على تحييد العسكريين، وعدم إشغالهم بما عليه السياسة من مناكفات وطرائق "الَّلتّ والعجن" والخداع والمواقف المتقلبة، والتي لا تروق مساراتها وأساليبها لأن يكونوا طرفاً فيها.

لماذا الحزب السياسي الآن؟

في شهر فبراير 2016، نشرت مقالاً بعنوان "قضية برسم الحوار: حماس وإمكانيات الفصل بين الدعوي والسياسي والعسكري؟"، أشرت فيه إلى أن الحركة الإسلامية بشكل عام، وفي فلسطين على وجه الخصوص، هي اليوم بحاجة ماسة إلى إجراء مراجعات فكرية وهيكلية حركية في ضوء المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وهذا ما درجت عليه الشعوب والأمم، إذ أنها بين حين وآخر تقوم بمثل هذا الإجراء. ففي الديمقراطيات المعاصرة، يتم ذلك من خلال العمليات الانتخابية المنتظمة في كل مؤسسات الدولة، حيث تعرض الأحزاب والتيارات السياسية برامجها ورؤيتها للإصلاح والتغيير، والتي بناءً عليها تتم المباركة وتحقيق الفوز أو الرفض والانتظار لجولة انتخابية قادمة.

وبما أن العملية الانتخابية في بلادنا معطلة وغير منتظمة منذ أكثر من عشر سنوات، لذا فإن علينا - نحن الفلسطينيين- أن نفكر بآلية أخرى لإجراء المراجعات، وتجديد الأدوات، كي نستبين وقع خطانا على الطريق، والتحقق من أن المسيرة تمضي بنا في الاتجاه الصحيح أو تأخذنا بانحراف نحو الخطأ.

الإسلاميون في فلسطين: العثرات والاستهداف

لم تكن حركة حماس التي قادت عمليات المواجهة مع الاحتلال في الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000) بعيدة عن متابعة سير المتغيرات التي تجري في المنطقة، الأمر الذي شجَّعها لأن تخوض غمار التجربة، بعدما اطمأنت لرصيدها الكبير في الشارع الفلسطيني، والذي أظهرته نتائج تقدمها في استطلاعات الرأي أو كسبها الملحوظ في الانتخابات، والتي جرت للبلديات واتحادات الطلاب والنقابات المهنية والتعليمية، وأيضاً دخول الإسلاميين في عالمنا العربي بقوة على خط المشاركة السياسية.

وبعد أن حصلت حركة حماس على تطمينات كافية بضمان نزاهة العملية الديمقراطية، تشجعت على خوض غمار التجربة؛ عملاً بهدفها في تحقيق الإصلاح والتغيير، وحماية ظهر المقاومة من أية محاولات لكسر شوكتها أو التجرأ على طعنها من الخلف.

لا شكَّ أن الحركة قدَّمت الكثير من الوعود في برنامجها الانتخابي في يناير 2006، والذي ثبت بعد سنوات من المدافعة السياسية، والاجتهادات المتعثرة في بناء شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية، أنها غير قادرة على الوفاء بتلك الالتزامات، وعاجزة عن تحقيق ما قطعته على نفسها من تعهدات ووعود، وذلك لأسباب داخلية وأخرى إقليمية ودولية.

وفيما نحن اليوم نواجه حصاراً إسرائيلياً قاتلاً، وأشكالاً من التواطؤ الإقليمي والتآمر الدولي، الذي يستهدف بمجموعه استنزاف رصيدنا الشعبي، نتيجة لتفشي البطالة وتقليص مستوى الخدمات والرواتب، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وتهالك البنية التحتية، وتراجع القطاع الصناعي نتيجة لحظر إسرائيل الكثير من المواد الخام بذرائع أمنية واهية، وإغلاق المعابر، وخاصة معبر رفح؛ الشريان الحيوي لقطاع غزة، وحرمان الآلاف من الطلاب والمرضى وأصحاب الإقامات في الخارج من مغادرة القطاع بشكل مريح وانسياب سلس...الخ.

في ظل هذه الظروف الصعبة معيشياً، والتي يتراجع فيها رصيد حركة حماس شعبياً وسياسياً، تصبح بعض الأسئلة المحذورة والمحرَّم طرحها مشروعة، مثل: كيف يمكن لحركة حماس أن تستعيد خطواتها ومكانتها الشعبية الواسعة من جديد؟ وهل هناك بدائل أو أدوات أخرى لتجاوز حالة الانكفاء والعجز وتخطي حائط الصد والالتفاف حوله؟ وهل حركة حماس ما تزال أمل الشارع الفلسطيني أم أن حضورها سيبقى كالآخرين؛ "شاهد مشفش حاجة".

هناك أيضاً من يتساءل بتحسرٍ وبراءة: بعد اثنتي عشرة سنة من التخبط والعثرات وضيق ذات اليد، هل ما تزال حركة حماس قادرة على تسويق مشروعها الإسلامي ورؤيتها الوطنية في التحرير والعودة؟ وهل يمكن النظر إلى تجربتها بأنها ما تزال على المحك، وأن هناك فرصةً للتدارك وحماية سفينة الوطن من الغرق والهلاك؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ كيف؟

نحن اليوم أمام تحديات كبيرة؛ أهمها محنة المشروع الوطني، والانقسام الذي أثقل بتبعاته كاهل شعبنا وقضيتنا، بعد أن قصم "ظهر البعير" الذي يحمل مئونة ما يقيم أود وجودنا، وأوهن بتداعياته شوكتنا القتالية، وأضر بعروتنا الوثقى ورؤيتنا النضالية.

لا شكَّ بأن ما آلت إليه أحوالنا في الحركة الإسلامية ليس بالمشهد الذي كنا نطمح إليه. لقد كان سقف طموحاتنا في أعاليها، وكانت أحلامنا وردية، فيما كنا نتطلع لخدمة شعبنا في أجواء أفضل للتعبئة وحلم الانتصار وتحقيق أمنياته في الحرية والأمن والاستقرار والازدهار.

للأسف؛ كان حجم التآمر على تجربتنا الوليدة كبيراً، أما خبراتنا في المناورة وامتصاص الصدمات فكانت محدودة، ولذا وقع المحذور، وأدركنا بأننا بحاجة ماسة إلى المراجعات، ومعاودة النظر وإعمال الفكر والاستدراك، وهذا ما يحدث أحياناً، باعتبار أن "لكل جوادٍ كبوة". ومهما كانت الانتكاسة وخيبة الرجاء، فإن فرص النهوض وتجاوز عثرات ما نحن فيه تبدو متاحة، ولا تقع في دائرة المستحيل.

حماس: بين الأمس واليوم

في الحقيقة، كانت حركة حماس تتمتع برصيد شعبي واسع قبل أن تلج عالم الحكم والسياسة، حيث كانت إنجازاتها على الأرض وفي مقاومة الاحتلال محل تقدير وإعجاب من الجميع، وتحظى أنشطتها الدعوية وتحركاتها المجتمعية بكل الدعم والتأييد، وكان ارتفاع منسوبها القيمي والأخلاقي فوق الشبهات، لذا منحها الشعب في الانتخابات التشريعية ثقته الكاملة، وفازت بجدارة واقتدار فاقت كل التوقعات، ومكَّنتها من تشكيل الحكومة بمفردها، حين امتنع الآخرون من الدخول في شراكة سياسية معها.

وبعد تشكيل الحكومة، بدأ العدُّ التنازلي، حيث تكاثرت الاضطرابات والمناكفات الإعلامية، وتعددت أشكال التحريض والمواجهات الداخلية، ومكر ذوي القربى، والاجتياحات الإسرائيلية، وتمَّ فرض الحصار الظالم على قطاع غزة. كان المطلوب هو إشغال حماس عن مشروعها في الإصلاح والتغيير، وإظهارها أمام شعبنا الفلسطيني بمظهر العاجز عن القيام بواجباته!! وأن اختيارها في الانتخابات ورهانها على حماس كان خطئاً يتوجب الرجوع عنه.

لقد وضعت حركة حماس كل ما لديها من طاقات أبنائها، وسخَّرت إمكاناتها في الداخل والخارج، بهدف التمكين لتجربتها، والقيام بكل متطلبات الحكم، وهذا ما تسبب في تراجع مشروعها الدعوي، وفقدان سيطرتها على شبكة المساجد والدروس الدينية والتربوية التي تُدار من خلالها، وفتح المجال للآخرين للتمدد في ساحاتها، وكسر احتكارها للخطاب الإسلامي ومنافستها عليه.

كما أن التوسع في العمل العسكري التي تقوم به كتائب القسام قد شكل هو الآخر مسار استنزاف للطاقات، التي كانت مفرَّغة بشكل كامل في مجالات العمل الدعوي والتربوي والإغاثي، ووجدت في ساحة الفعل المقاوم إغراءات أفضل مادياً ودينياً، فصار لهذا المجال الأولوية بين قيادات الحركة وكوادرها.

أما العمل السياسي، فقد تسابق إليه - في البداية - الكثيرون من أبناء حركة حماس، حيث العمل الحكومي الذي يوفر الوظيفة والوجاهة والمكانة بين الناس. وفي ظل هذا التموج وحركة التنقلات، التي طالت الأفراد والقيادات، اختلت موازين الضبط والربط، وتداخل الدعوي بالسياسي كما العسكري!! وأصبح الشيخ الذي نريده على المنبر للوعظ والإرشاد وزيراً أو نائباً أو قائداً عسكرياً لا يشق له غبار!! أما الشاب الداعية الغيور فقد استدار هو الآخر إلى متطلبات حياته الدنيا يطلب نصيبه منها، بعدما فقد القدوة والمثال فيمن سبقه من القادة والأئمة الأعلام.

نعم؛ برز إلى السطح خلل كبير أفرزته عمليات التسمية والتوصية والتكليف والتوظيف، حيث وصل كثيرون من خلالها بدون أهلية أو استحقاق إلى مبتغاهم وحدهم. نعم؛ لقد درجت ساحتنا الفلسطينية لتقديم أصحاب الولاء على الكفاءة، وهذا ما سبقتنا إليه حركة فتح، فإذا بنا كإسلاميين – للأسف – نحذو حذوها، ولكلٍّ منا نصيبه من الحجج والأعذار.

لكل ما سبق، هذه هي أحوالنا، وهذا هو توصيفنا للواقع المرير، ونأمل أن يمتلك قادتنا سعة الصدر والشجاعة ليكون مثالهم الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل، حين قال: "لا نزال بخير ما كان في الناس من يُنكر علينا".. فنحن وإن كنَّا بهذا الكلام إنما نحاول وضع النقاط على الحروف، فإننا نرجو أن يتجاوب الركب معنا، لننتشل الوطن من الغرق وتمضي بأمان سفينتنا.

اليوم ما المطلوب عمله؟

كما سبق لي أن قلت: إنني في منتصف عام 2006 طرحت فكرة تدشين الحزب السياسي، للحفاظ على مقدرات الحركة ورصيدها الأخلاقي في أذهان قواعدها الشعبية. لقد آمنت دوما بأن للحزب السياسي مهمات محددة وأهدافاً واضحة، ويمكن أن يقوم بها أشخاص بمواصفات معروفة، ولديهم إمكانيات ومهارات متميزة، وليس بالضرورة أن يكونوا من أئمة المساجد وعُمَّارها النجباء. ولكن الفكرة – آنذاك – لم تلق قبولاً لدى قيادات الحركة، وإن تفهَّم البعض منهم ذلك.

وفي إبريل عام 2012، نشرت مقالاً بصحيفة"الحياة" اللندنية بعنوان "الإسلاميون في فلسطين: آن الأوان لإنشاء حزب سياسي"، وقد ورد في بعض شروحاته التالي: "إن الحزب المطلوب يجب أن يكون واجهة للعمل السياسي مفتوحة على الجميع، ويتوجب عليه السعي لحشد كل الجهود الوطنية المخلصة في جبهة واحدة، بغض النظر عن أيديولوجياتها السياسية وتوجهاتها الفكرية وأدواتها النضالية، لتمكين شعبنا من تحقيق طموحاته في التحرير والعودة.. كما أن الحزب المطلوب يمكنه كذلك العمل في إطار شراكة سياسية مع الآخرين، بما يعزز قدرات مشروعنا الوطني للنهوض بالحالة المجتمعية لشعبنا في الوطن والشتات".

عاودت مراجعة بعض الإخوة في قيادة الحركة بعد مضي ست سنوات من اختبارات مشهد الحكم والسياسة، ولكن كان الجواب كسابقه، وهو الخشية على مستقبل الحركة والخوف من الانقسام، بالرغم أن تداعيات ما يحدث لا تبشر بخير، وأن علينا اتخاذ القرار الصعب في سبيل النجاة بالقافلة، وعدم تركها لقمة سائغة للمتآمرين، ونهباً للطامعين بلحومنا وصفحات مجدنا التليد، والمتربصين لكسر شوكة المقاومة وفرسانها الميامين.

اليوم، وبعد الدرس الذي تعلمناه من السنوات العجاف لمشهد الحكم والسياسة، فإنني أعيد طرح الفكرة، ولكن بقناعة ووعي أكبر واستحسان وإدراك أفضل، حيث إن لدينا وأمامنا تجارب لإسلاميين قاموا بتأسيس أحزاب سياسية، وعملوا على دعمها بشكل مباشر أو من وراء حجاب في أكثر من بلد عربي وإسلامي.. والشاهد أن هذه الأحزاب إذا ما أبدعت ونجحت في مهماتها، فإن ذلك أدى إلى تعاظم كسب الحركة الأم والارتقاء بمكانتها، وإذا لم تكلل برامجها بالنجاح ولم تكسب الانتخابات، حافظت على استقرار البلاد، وعادت تكرر المحاولة من جديد.

إن تجربة "حزب العدالة والتنمية" بالمغرب هي اليوم النموذج الأبرز للاستشهاد به، إذ إنه يقدم الطبعة العربية لتجربة تركيا أردوغان، فعلينا أن ندرس الإنجاز المغربي للإسلاميين ومحاولة محاكاته.. نعم؛ نحن ندرك بأن لكل بلد خصوصيته، وتجربتنا كشعب تحت الاحتلال تختلف بالكلية عن حركة تعيش في بلد أحواله مستقرة، وأن هناك قناعة وانسجاماً للعمل مع القصر، وَفق تفاهمات أضحت هي جزءاً من أدبيات الحركة والحزب.

إن أمامنا تجارب في بلدان مختلفة بعضها إسلامية نجحت فيها مثل هذه التجارب، وبعضها كانت في مرحلة التحرر، ولكنها أعطت للسياسة دورها ولم يقتصر جهادها فقط على البندقية، كما أنها أوكلت لكل جبهة من يسدد فيها ويقارب؛ فلساحة الجهاد فارسها المغوار الذي لا يشق له غبار، وإلى ساحات المساجد ومنابرها العوالي دعاتها الأغيار من أهل العلم وطلابه من المصطفين الأخيار، كذلك فإن لميادين السياسة وحلباتها رجالها من أهل الحنكة والنباهة ممن خبروا هذا المجال أو درسوه، وتنطبق عليهم مقولة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)"لست خبَّاً ولا الخبُّ يخدعني".. لقد توسعت حركتنا كثيراً، وتضخمت فيها المسئوليات وتكاثرت الأعباء، وناء بكلكل قادتها ثقل المهام وتعددها، وآن للبعض أن يتخفف من بعض الأحمال، ليجد وقتاً يعطيه لأهله وأقاربه وجيرانه، والتركيز على الملفات التي بين يديه، وليس أن يحمل أَسفاراً بين منكبيه، يقيم معها الليل ولا حلَّ لديه.

آن الأوان كي تتوزع الأعباء على طاقات أهل العلم والاختصاص، وأن يتفرغ كلٌّ لساحته ضمن ناظمة لا تسمح بتغول جبهة على أخرى، ولكنها تسمح بتوزيع عادل للطاقات والإمكانيات، في ضوء الرؤية الاستراتيجية التي رسمنا خطوطها العريضة، ونعمل جميعاً مجتهدين وفق محدداتها.

آمل أن نعطي الفرصة لمفكري الحركة وأصحاب التجربة السياسية فيها من التحرك وإشادة ما نراه حتمية للبقاء في مشهد الحكم والسياسة، ألا وهو الحزب السياسي.

إن كل ما سبق يستوجب إقدام حماس وتحليها بالشجاعة الكافية للقيام "بانسحاب تكتيكي" يعفيها من حمل مسئولية المشهد السياسي القائم، والذي يتهدد استمراره وجودنا جميعاً، وكما غادرت حماس الحكومة جزئياً في نيسان 2014، فإن عليها اليوم استكمال المشهد بالخروج الكامل منها، ولكن مع اتفاق حقيقي يكفل تداول السلطة من خلال الذهاب للانتخابات، والحفاظ على شرعية الموظفين وأرزاقهم، وإيجاد آليات تعطي لكل ذي حقٍ حقه.

إن علينا النظر والتدبر في تجربة حزب الله السياسية، حيث إنها تحتوي في جوانب منها على ما يمكن محاكاتها فيه، وكذلك تجربة إيرلندا الشمالية؛ حيث عمل العسكر والسياسيون في ساحتين مختلفتين، وكانت معطيات الحصاد في النهاية واحدة، وهي الحرية والاستقلال.

من الجدير ذكره، أن الثابت الأكيد والحاسم لأي حركة، هو متانة القاعدة الشعبية واتساع ساحة الأنصار، وإن العمل لكسب الجمهور الفلسطيني واستعادته من جديد يستوجب مثل هذا "الانسحاب التكتيكي"، والعمل وفق استراتيجية جديدة تقوم على أساس واحد، وهو ترميم العلاقة مع الشارع الذي يمثل حاضنتنا الشعبية بأيِّ ثمن، وأن تقديم التضحيات في هذا الاتجاه هو واجب، بل هو حراك بالمعنى الشرعي "واجب الوجوب"؛ وكما تعلمنا من قواعد الفقه وأدبياتنا الإسلامية، فإن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

وأختم بالقول: إن هذه الدعوة للفصل بين السياسي والعسكري تبقى - حتى الآن- مجرد مقترح أو فكرة للتداول والحوار، ولا تمثل رؤية متكاملة الزوايا والأبعاد، فهذه مسألة متروكة للمراجعات والمؤسسات الحركية صاحبة الاختصاص للبحث في تفاصيلها.

وللحقيقة القول: إن هذه الفكرة ما تزال تراوح مكانها، وتدور حولها المواقف بين التأييد والرفض على المستوى الرسمي داخل مؤسسات الحركة وبين قياداتها، وإن كان العديد من جيل المثقفين والقيادات الشابة لا يعارض ذلك، وربما لو جرت المراجعات التي ننادي بها فستتوسع – بالتأكيد - المدارك لقبول الفكرة، وإيجاد بيئة نخبوية حاضنة لها.

باختصار: إن نجحت التهدئة فسوف تمهد الأرضية لفكرة الحزب السياسي، وسيكون الجدل أقل وتيرة منه الآن.. ولذلك - وفي سياق النصيحة - أقول لإخواني: خذوا أمر الحزب السياسي بقوة ولا تتردوا، فالجهاد بالكلمة والموقف لا يقل أهمية وفاعلية عن جهاد الرصاصة والسيف، وفي كلٍّ خير.