شعوب أقوى من شعوب

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

كيف تمكن جيش صغير من الإسبان من احتلال قارة أميركا اللاتينية كاملة، وحكمها، وتغيير لغات شعوبها الأصلية؟! كيف تمكنت فرقة بريطانية لا تتجاوز الثلاثين ألف جندي من السيطرة على كل الهند؟ اليابان، تعادل بمساحتها وعدد سكانها أصغر مقاطعة صينية، ومع ذلك تمكنت من احتلال الصين، وكوريا، ومعظم جزر المحيط الهادي! نابليون احتل مصر في يومين، وبخسائر لا تتعدى السبعين جنديا؟.
دون أن نقلل من أهمية التحليلات الإستراتيجية والعسكرية، لنلقِ نظرة على أهمية العامل الجغرافي، وكيف لعب دورا حاسما في جعل شعوب أقوى من شعوب أخرى، رغم أنها تفوقها عدديا بشكل كبير. 
حسب العامل الجغرافي يكتسب المناخ أهمية قصوى، حيث يؤثر المناخ على طبيعة الأنماط السلوكية، وعلى تطور المجتمع، ونوعية قوى الإنتاج، ونوعية الموارد الطبيعية، وهنا تدخل عدة عوامل مترابطة، منها مثلا «الحيوانات» التي اعتنت بها تلك الشعوب، فمثلا لعب الجمل دورا مهما في نشأة وتطور الجزيرة العربية. 
الفيل كان أهم أسلحة الجيش الفارسي. الحصان كان عاملا حاسما في انتصار الغزاة الهولنديين (البيض) على سكان جنوب إفريقيا.. وهكذا.
لكن دور الحيوانات لم يقتصر على كونه سلاحا هجوميا، فقد لعبت الأمراض المرتبطة بالحيوانات دورا أكثر أهمية وخطورة؛ فالشعوب الأوروبية كانت قد اعتادت منذ زمن بعيد على تربية الحيوانات في مزارع ضخمة (ماشية، خنازير، دواجن..)، ومع الاحتكاك بها انتقل العديد من الأمراض الحيوانية إلى الإنسان، وهذه الأمراض فتكت بأعداد هائلة من الأوروبيين، إلا أنهم في النهاية اكتسبوا مناعة طبيعية ضدها (منها الجدري مثلا)، وعندما غزا الأوروبيون الأميركتين، جلبوا معهم حيواناتهم، وجلبوا معها أمراضها.. مع أن شعوب القارتين الأصليين (الهنود الحمر) كانت على مستوى جيد من التقدم، ولديها حضارات الأزتك والإنكا والمايا وغيرها إلا أنهم لم يكونوا يعرفون أغلب تلك الحيوانات، وليست لديهم مناعة ضد أمراضها، فسرعان ما أصيبوا بأمراضها المعدية، وبدأت معدلات الوفاة ترتفع بأرقام مخيفة، حتى قضت على نصف السكان تقريبا، في المكسيك انخفض عدد السكان من 20 مليونا إلى 1.6 مليون في أقل من مائة سنة.. (برنامج الدحيح). 
وكثيرا ما كان الغزاة يتعمدون نقل تلك الأمراض للهنود، عن طريق رمي بطانية ملوثة بالميكروب.. وبذلك تكدست الجثث، وعمت المجاعات والأوبئة.. ما سهل على الغزاة احتلال البلاد وإخضاع سكانها، وإرغامهم على العمل في المناجم والمزارع الكبيرة؛ حتى مات ملايين الهنود من المعاملة القاسية في أميركا وكندا، وتلاشوا من معظم أميركا اللاتينية، بعد تغيير لغاتهم وثقافاتهم ودياناتهم بالقوة.
وبطبيعة الحال، ليست الحيوانات وحدها من لعب دور الحسم التاريخي، فكل غازٍ كان لديه عنصر تفوق من خلاله على الشعب المحتل، أو في سياق التنافس بين الشعوب القوية، فمثلا ساهم تطور الملاحة البحرية وابتكار سفن الكرافيل الشراعية واختراع البوصلة والإسطرلاب وخرائط البورتلان في حسم سباق اكتشاف العالم الجديد واستعماره من قبل البريطانيين والإسبان والبرتغاليين. 
كما كانت البنادق عنصر الحسم لكل الغزاة الذين كانت تواجههم الشعوب بالسيوف والرماح.. ومع تطور أدوات القتال كان كل سلاح جديد يمتلكه أي جيش ينتصر من خلاله.. كما فعلت الطائرات الحربية في الحرب العالمية الأولى مثلا. 
لكن السلاح الأخطر والأقذر على مر التاريخ كان سلاح المخدرات، الذي استعملته بريطانيا ضد الصين لإجبارها على فتح أبوابها للتجارة، فيما سمي حرب الأفيون؛ فبعد سنتين من الصمود الصيني أمام الأسطول البريطاني، أُجبرت الصين على توقيع اتفاقية «نان جنج» المذلة سنة ‏1842، وهي اتفاقية تنص على تنازل الصين عن «هونج كونج» لبريطانيا، ودفع قيمة الصادرات الصينية على شكل أفيون، ما أدى لانتشار الأفيون بين الناس، حتى وصل عدد المدمنين الصينيين إلى 120 مليون مدمن سنة 1878، وبذلك فقدت البلاد منعتها وقوتها الجماهيرية.
أما نابليون فقد استخدم سلاح التضليل والتدليس لضمان سيطرته على مصر؛ فقد ارتدى العمامة، والجبَّة، وأعلن إسلامه، وكذلك فعل قائد جيشه «مينو»، الذي سمّى نفسه، «عبد الله مينو»، وهذه الحيلة انطلت على الشيخ البكري، نقيب الأشراف، وعلى مشايخ الأزهر، فاستكان المصريون لبعض الوقت، حتى تكشفت لهم الخديعة، ولكن بعد فوات الأوان.. وفي مذكراته كتب نابليون: «انتصرتُ في فرنسا، عندما صرتُ كاثوليكيا، واحتللتُ مصر عندما صرتُ مسلما، وربحتُ معاركي في إيطاليا عندما صرتُ جبليا، وإذا حكمتُ اليهود فسأكون الملك سليمان». (توفيق أبو شومر).
بريطانيا، عندما كان عدد سكانها بحدود الخمسة ملايين نسمة، تمكنت من احتلال معظم الكرة الأرضية، وجعلت لغتها اللغة الرسمية لعشرات الدول، وصارت اللغة الأولى عالميا.. وفي سبيل ذلك، استخدمت كل ما لديها من أسلحة، كان أمضاها سلاح «فرق تسد».. ولكنها قبل ذلك امتلكت العلم والتكنولوجيا والتنظيم والتوثيق.. ضد شعوب كانت بالكاد تفك الخط.. 
أميركا، أقوى دولة في العالم حاليا، وتهيمن وتعربد على كل العالم بأساطيلها ودولاراتها التي دون رصيد، لكنها فرضت نفسها قبل ذلك بقوة الإعلام وهوليود، ولأنها تفوقت في مجالات الإدارة والطب والصناعات العملاقة والتكنولوجيا، وحتى الآداب والفنون..
ولكن، ما السلاح الذي امتلكه الإسرائيليون في حسم الصراع مع العرب؟ كيف تمكن بضعة ملايين من اليهود من الهيمنة على أكثر من ثلاثمائة مليون عربي؟ بالتأكيد هنالك عناصر وعوامل كثيرة، لا مجال لذكرها هنا، لكن ما يعنينا منها، وما يتصل بموضوعنا يمكن اختزاله بكلمة واحدة (التنظيم)؛ التنظيم على كل المستويات والأصعدة.. خاصة وأن العرب غارقون في الفوضى، والفساد.. 
نحتاج الكثير حتى نتعلم من التاريخ.