ربما ما خفي أعظم

د. عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

كلنا أمل ـ ولو من باب أن نمنّي النفس ـ بأن لا تكون "مفاوضات" التهدئة أو الهدنة قد وصلت إلى نهايتها، وأن لا تكون إسرائيل قد تحصّلت على ما كانت تهدف إليه من فصل القطاع عن الجغرافيا، وعن الديمغرافيا الفلسطينية، وأن لا تكون حركة حماس قد وقعت في الفخ الذي ينصب للحقوق الوطنية، والأهداف الوطنية، ولكامل المشروع الوطني.
ولكن لماذا نقول ذلك؟
بصراحة هناك خشية حقيقية من أن تكون "المفاوضات" بين حماس وإسرائيل للوصول إلى تلك الهدنة تسير في الواقع على مسار آخر، غير المسار الذي تقوده جمهورية مصر العربية، وأن تكون الاتفاقات الحقيقية هي التي ترعاها قطر وليس مصر، وأن تتضمن هذه الاتفاقات "التعهدات" المطلوبة إسرائيلياً، وأن تكون مسألة قيام "الدولة" في غزة قد أخذت طريقها إلى انفصال مكرّس، وأن تكون هذه "المفاوضات" قد انتهت من الناحية الفعلية، وهي بانتظار الإعلان عنها في أول فرصة سانحة، وخصوصاً إذا لم يتم سريعاً التوافق على آليات ملموسة لإنهاء الانقسام بعد الردود التي طرحتها حركة فتح في إجاباتها على آخر ورقة مصرية.
فإما أن هذا المسار يستخدم حالياً لكي يكون بديلاً عن المسار المصري، وإما أنه هو المسار الحقيقي الذي ستنتهي إليه الأمور بعد "تعثر" المسار المصري، لأن إسرائيل في الواقع تريد أن تقذف بالقطاع في وجه مصر، ومصر لا تريد أن يتحول القطاع إلى عبء سياسي عليها، مع أنها مستعدة لتحمل الأعباء الاقتصادية أو القسط الممكن من هذه الأعباء، ولهذا فليس مستبعداً أبداً أن تكون إسرائيل تبطئ في الوصول إلى الاتفاق لأنها تفضل المسار القطري، ولأنها في هذه الحالة تعيد القطاع كعبء كبير على الدولة المصرية.
كيف؟
إذا رفضت مصر التعاطي مع مخرجات المسار القطري فإن "الحاجة" تصبح "ماسة" للمطار والميناء الخارجيين، وأية اعتراضات مصرية على الأرض ستفسّر باعتبارها خطوات "أجبرت" حركة حماس أو "تجبرها" على المسار القطري، وستحمّل القاهرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة المسؤولية عن ذلك، كما ستفسّر كل ما تقوم به مصر من خطوات لمنع هذا التدهور نحو هذا المسار باعتبارها إمعاناً في "الحصار" على القطاع.
أعود للقول إن هناك خشية من ان تكون الأمور سائرة في هذا الاتجاه وهي خشية مشروعة ولكنها ليست مؤكدة أو ليست مؤكدة بعد، وربما أنها ما زالت مجرد سيناريوهات احتياطية ولم يحن الوقت بعد للكشف عنها.
النقاشات والمناكفات الداخلية الإسرائيلية حول التهدئة تشي بذلك أو يمكن قراءتها بهذا الاتجاه.
من المستحيل أن تكون اللقاءات القطرية الإسرائيلية حول التهدئة في خدمة المسار المصري، ومن المتعذّر أن تلعب حماس لعبة قطر ـ إسرائيل بدون أن تعرف عواقب هذه الخطوة على الجانب المصري، ولذلك فمن الممكن هنا افتراض أن جناحاً بعينه داخل حركة حماس هو الذي يلعب في هذه الحلبة خوفاً من أن يكون جناح آخر ـ وقد يكون هذا الجناح بالذات هو الأغلب في إطار الحركة ـ هو الذي سيوافق وأن بشيء من الصعوبة على تلازم المصالحة مع التهدئة أو حتى القبول بمبدأ المصالحة أولاً. أقصد قد تكون مسألة المسارين هنا هي انعكاس لتوازنات داخلية حمساوية إضافةً إلى كونها "انعكاساً" لصراعات داخلية إسرائيلية وخصوصاً بين نفتالي بينيت وليبرمان.
الشيء المؤكد وربما الجديد هنا، هو أن الولايات المتحدة أصبحت اليوم تميل إلى الاتفاق مع حماس على حساب الشرعية الوطنية، والشيء المؤكد الآخر أن طاقم ترامب حول الشرق الأوسط لديه ردة فعل عالية على المواقف الشجاعة التي اتخذها الرئيس الفلسطيني في مواجهة الإدارة والطاقم ومجمل "الصفقة" وعلى دور الولايات المتحدة.
وإذا أردنا أن نسمّي الأشياء باسمها فإن الولايات المتحدة تشعر أن الرئيس الفلسطيني قد عزل مواقفها ودورها، وأن القيادة الفلسطينية فيما يتعلق بصفقة القرن تتحدث بلغة واحدة وموحدة، وأن لا أمل بأن تجد من يغازلها على هذا الصعيد، الأمر الذي يجعل من حركة حماس البديل الوحيد أمامها و"الشر" الذي لا بد منه أو "الخير" الذي يعطيها (أي الولايات المتحدة) فرصة الرد على الرئيس وعلى القيادة.
وبما أن مصر ليست على استعداد لأن تلعب هذا الدور ـ أي دور الرد والانتقام من القيادة الفلسطينية ـ يصبح مفهوماً أكثر كيف أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون أكثر ميلاً للمسار القطري على حساب المسار المصري.
اليمين في إسرائيل هو الذي يعمل على إقناع الولايات المتحدة بأن "الدولة" في غزة قائمة على الأرض من الناحية الواقعية، وهي "دولة" تحت السيطرة الكاملة، وليس أمامها سوى التعاون مع إسرائيل إن هي أرادت أن تعيش، وأن المشكلة هي استعداد حركة حماس، وبما أن هذا الاستعداد أصبح متوفراً اليوم فمن "العبث" أن نعيد الشرعية الفلسطينية إلى القطاع.
باختصار اقتنعت الولايات المتحدة أن تجويع غزة لمدة تساوي حصار العراق أصبح كافياً لمقايضة الثمن الإنساني بالثمن السياسي، وإذا وجدت الولايات المتحدة وإسرائيل من هو على استعداد لمقايضة كهذه فمن المؤكد أنهما معاً سيعملان عليه، خصوصاً وأن اختراقاً من هذا النوع يعتبر بكل المقاييس اختراقاً هاماً قبل "إعلان" الإدارة الأميركية عن فشل صفقتها الشريرة.
ما كان يمكن أن يحدث كل ذلك لو ان حركة حماس أدركت منذ البداية ان مصيرها سيكون في يد الأميركيين والإسرائيليين إن هي أصرّت على تحكمها بالقطاع، والاستئثار به بأي ثمن، وهي ما زالت قادرة على الإفلات من هذا الشرك إن هي أدركت ـ مهما كان متأخراً ـ أن لا ملاذ لها سوى ملاذ الشرعية والشراكة الوطنية، والمواجهة الموحدة لكل خطط تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لا ملاذ سوى إنهاء الانقسام أولاً وثانياً وعاشراً. أما دون ذلك فكل الخيارات بائسة إذا أردنا استخدام المصطلحات الدبلوماسية.
أما الأمل الأهم هو أن أكون على خطأ عندما حاولت أن أفكر من خارج الصندوق الفلسطيني المعهود.