ماذا يمكن أن نكتب حتى يهتز الضمير الفلسطيني هذه المرة ليعرف أن غزة تخدرت من شدة الألم .. ماذا يمكن أن نكتب أكثر مما كتبنا عن المأساة والمهانة التي تتجرعها غزة يوميا؟ فلم يبق ما نقوله عن الكهرباء في هذا الحر القاتل ولا عن المعابر التي حولت مليونين من البشر إلى معتقلين بلا أفق للإفراج .. وماذا دمر؟ ليس فقط في المباني والحجارة بل في البشر ولا يعرف إذا كانت كل عمليات العلاج اللاحق فيما لو انتهت أزمة غزة اليوم ستعيد سكانها إلى الإنسانية ...مشكوك بالأمر.
قال صديقي الذي عاد إلى غزة بعد سنوات، «الناس ليسوا هم الذين أعرفهم .. الوجوه باهتة والملامح عابسة كأنها خارج الزمن أو خارجة للتو من قبو بعيد» قلت وماذا تتوقع من حصار ودمار وحروب عابثة وفقر مدقع ومعابر مغلقة وليل دامس طويل فقد انهارت التراتبية الاجتماعية، الأب لم يعد هو الأب لأنه غير قادر على دفع استحقاقات مسؤولية الأسرة بل يهرب من عيون زوجته وأبنائه، كيف تتوقع أن تراه في الشارع؟ وفي كل بيت قصة ورواية ومأساة، كل واحدة منها مدعاة للبكاء.
السياسيون في حالة انفصال تام عن كل تلك المآسي ولا أحد منهم يقرأ عن الكارثة ومسارها الذي يهوي نحو الجحيم وقد بدأت نذره، الكتاب يصرخون بلا جدوى حد الشعور بلا قيمة لما يكتب والناس تسير نحو حتفها كخيار قد يكون أرحم من حياة تساوى فيها الموت وعدمه والهروب من الوطن هو مادة الحديث والشغل والشاغل للجيل الذي وجد نفسه بين فكي الانقسام والاحتلال والصراع على السلطة وعمر ينزف بانتظار أمل انطفأ بعد أن كان متقدا ذات يوم بحجم الدولة والاستقلال.
ثلاث جهات قادرة على إنقاذ غزة ولم تفعل بل عاندت كل منها لتراهن على ما لم يتحقق، والذي حصل أن الإنسان هنا لم يعد هو الفلسطيني الذي كان ذات يوم وبلا مبالغة وأظن أنه لن يفهم ذلك سوى القابعين هنا في غزة والمتحررين من قوى تبيع الوهم أو تبايع الوهم، أما الباقون الذين انتظروا لسنوات باتوا يعرفون أنه كتب عليهم كما لم يكتب على الذين من قبلهم ولا على الذين من بعدهم ويعرفون أنهم لم يكونوا سوى وقود رخيص لعجلة التاريخ الفلسطيني الذي انحرف عن مساره في لحظة سوداوية.
أول تلك الجهات هي مصر التي تعتبر منفذ غزة نحو العالم لأن باقي المعابر تتحكم بها إسرائيل كما قال رئيس الوزراء المصري ذات مرة، وتدرك مصر أن إغلاق معبر رفح بهذا الشكل يعني إعدام الحياة الإنسانية لمليونين من البشر وبغض النظر عن الأسباب السياسية وسيطرة «حماس» إلا أن المأساة الإنسانية أكبر كثيرا من خلاف دولة مع حزب حديث العهد بالعمل السياسي وأن مسؤولية الدولة القومية تفرض عليها سلوكا مختلفا لأن ما يحدث من مأساة إنسانية لا تليق بمصر ولا بالدور المصري.
وثاني تلك الجهات هي السلطة والتي بإمكانها رغم سيطرة حركة حماس على كل مفاصل الحياة في هذا القطاع البائس أن تمد يدها إلا أنها لم تقم بما تتطلبه المسؤولية كقيادة لجزء من الشعب شاء قدره أن يتواجد في هذه المنطقة ويعيش تلك الظروف وكأن الغزيين المساكين هم أصحاب فكرة الانقلاب عليها أو هم من نفذ هذا الانقلاب وأقصاها رغم العديد من الحالات الإنسانية التي يتطلب تدخلها دوما ورغم الصلاحيات التي تمكنها من التدخل في غزة.
أما آخر الجهات، تلك الجهات وأكثرها مسؤولية هي حركة حماس التي تأبطت مسؤولية غزة منذ ثماني سنوات فحوصرت وحاصرتنا معها ولم نسمع منها سوى الشكوى والاتهام ووعود بانفراجة لم يعد يصدقها أحد، ومع كل تلك التجربة المريرة لحكمها لا زالت تصر على استمرار هذه التجربة دون أن تقدم ما يمكن أن يخفف من الوجع فلن تترك سلطة الطاقة التي سيطرت عليها لن تترك المعابر ولم تترك أي شيء وبالجملة لن تترك غزة وسكانها الذي فعلت بهم التجربة ما لم تفعله كل العقود الماضية من رغبة بالهروب من الوطن.
من ينقذ غزة إذن، هو السؤال الكبير والحزين والمصاحب لرحلة الآلام الطويلة والتي لن تصفها كل الكتابات وكل الروايات التي تدمي العين والقلب معا.. كل من الجهات الثلاث تنتظر الزمن الذي يقطع أرواح الناس هنا.. مصر تنتظر مصالحة حتى تفتح المعبر وتلك لن تتم وملفها سيصبح طي النسيان والسلطة تنتظر أن تتنازل «حماس» وتسلمها المفتاح و»حماس» لن تفعل حتى لو انهارت غزة أكثر .. و»حماس» تنتظر أن تفعل الكارثة الإنسانية فعلها في الضغوط على الأطراف وهذا لن يتم.
إذن، الكارثة مستمرة لم يعد للغزيين مطالب سوى سلم للهروب وممر للنجاة، ينتظرون أي اتفاق يفتح معبرا بريا أو بحريا حتى «ينفدوا» بجلودهم من جحيم الوطن.. فكتلة الغضب تتحول إلى إحباط عارم يرتسم على ملامح البشر الباهتة والتي فقدت رونق الحياة.
غزة مثار شفقة كل الوفود الدولية التي تزورها وتصاب بصدمة الواقع فيها تعيش تراجيديا لم يكتبها كتاب العبث، كأنها منطقة مهانة ومعزولة وخارج التاريخ الفلسطيني بماضيه وحاضره ومستقبله وربما يتم دفعها لتكون خارج مستقبله أيضا أو يجري العمل على ذلك فزيارة نتنياهو إلى قبرص للتنسيق مع الرئيس هناك لفتح الميناء البحري العائم لغزة تشي بالمستقبل.. فبعد سنوات الحصار والحروب وعملية التيئيس المخططة جيدا إن فتحت ستغادر الناس جماعات، هل ما حصل كان مجرد مصادفات؟ أم أن الكتلة البشرية في غزة هي أزمة الأمن القومي لإسرائيل وما كان خلال السنوات الماضية هي عملية كي وعي حتى لا يكون سوى خيار الرحيل؟
وهل ستكون عملية إنقاذ غزة وفقا لسيناريو أعد في دوائر الأمن ونفذته حكومات إسرائيل المتعاقبة، الأسوأ أن عملية كي الوعي جعلت أهل غزة جاهزين لتلقف أي حل في ظل حياد الجميع بلا تدخل أو صمت الجميع.. يبدو أن الأمور هكذا.. أو أن تغير الجهات الثلاث الفاعلة في غزة سياستها، مصر ومعبر رفح وأن تتراجع «حماس» وتتقدم السلطة بما لديها من إمكانيات وصلاحيات ويبدو ذلك صعبا ولتستمر الكارثة..!
وإذا كانت الأطراف الفاعلة، كل منها يعيش انتظار تراجع الخصم ....انتهاء حكم «حماس».. أو جعل المأساة تجر السلطة أو مصر فقد ثبت أن الحسابات جميعها كانت خاطئة فواقع غزة البائس أنتج حالة من التطرف السلفي المعادية للجميع، «حماس» ومصر والسلطة، ففي اللعبة خسر الجميع وأولهم المواطنون.. غزة مهانة ذليلة منكسرة بحاجة إلى من يأخذ بيدها لا تركها تغرق في البحر وقد غرقت فماذا نكتب اكثر كي نحدث ارتجاجة للضمير..؟
بالصور: سيناريو درامي ينقذ السيتي من السقوط أمام آرسنال
23 سبتمبر 2024