في حياة الجماعات، ثمة أشخاص تشكلهم إراداتهم وأقدارهم وخياراتهم والحاجة لهم كاستجابة لشيء ما فيصيرون رموزاً، يراها الناس وهي تكبر بذاتها وتتفاقم بهم ثم يألفونهم فيصبحون قدما مع الضرورة ومع الزمن، في صميم الذاكرة والوجدان الفردي والجمعي كإيقونات يتم توارثها جيلا فجيلا.
على هذا النحو، في (ومن) صميم لحظة وجودية حرجة وطاحنة، اندلع محمود درويش في زمنه وفي حياة شعبه وأمته وأجيالهما كرمز كبير، صاحب مقام عال في قوة القول، قول حاول نفض الغبار عما يوجد في وجدان الناس وأعماقهم ولا يجدونه في يومياتهم،صار له دور يؤديه في هندسة الوعي اللازم في اللحظات الثقيلة، ليضحي لاحقا مشغولاً بتوليد المقاومة الوجودية المؤسسة لكل مقاومة محتملة.
لم نكن بحاجة إلى أن نرى محمود درويش ونلمسه "لمس العين واليد" طالما كان يتجلى نصا وصوتا ومعنىً، تسري حيث يجب وينبغي. إن محض وجوده وآخرين بهذه الصفات، كان يضمن له ولهم كل أشكال الحضور العميق، حضور أعلن عن بقاء بعض "حجارة الوادي " رغم هول طوفان التاريخ الذي نسف الوادي وحجارته ووزعها في ستة أرجاء الأرض، وليس أربعتها فحسب.
قدما مع الزمن، تشكل محمود درويش ، سميح القاسم، غسان كنفاني، توفيق زياد، إدوارد سعيد وآخرين كثر، كخط دفاع فكري وجودي جمالي ، ساهم بقوة في تكوين وعي فلسطيني أولي في مواجهة تغّول تاريخي فريد مثلته إسرائيل المدججة بكامل عدتها الإيديولوجية والسياسية والعسكرية ووهن العرب وهوان بعضهم.
في ذروة نجاح فكرة إسرائيل في التحول لمشروع يسعى على الأرض، تمكن محمود وهؤلاء من إيجاد حيز من المقاومة، ردت بكل ما أوتيت من عزم الكلمات الباقية، على الاحتلال وكل أشكال العدوان الممارس على مبنى الفلسطينيين وأمتهم والمنطقة وعلى المعنى معا. حيز كان من خصائصه أنه غير قابل للهزيمة أمام عدوان أو تجاهل أو انحراف أو انكسار، جرى في ثناياه تحّويل وجع اللحظة وعذاباتها الزاحفة، لصبر ووعد بعيد وشاق بنصر ممكن على: شوائب الذات وعلى العدو معاً، يمكننا أن نسير إليه وأن يلاقينا بذات العزم وأكثر، إذا ما تلمسنا الطريق إليه على نحو يليق به.
***
في فصل ما، من فصول تقلب الفلسطينيين في الصعوبات والمشقات المترامية، تكفلت خطوط طول المنافي الفلسطينية وعرضها، بصياغة لحظة اجتماع بيننا في تونس ، اجتماع جرى عن غير قصد وعن غير ميعاد.
كنا نعرف عن وجود محمود درويش بيننا: رسما وقولا، وهذا ما كان يمنحنا أحساسا بأمان ما، بثقة ما، توجد في ثنايا القصيدة وجبهات القول الأخرى، وليس في مطولات السياسة التي استأنست بالإخفاق، وحولته لاحقا إلى ما يشبه المصير. وكان بالتأكيد يفترض وجودنا هناك ، مع فارق أننا كنا قادرين على تحديد ملامحه ، غير انه لم يكن باستطاعته أن يحدد ملامح الغالبية فينا، وبينما لم يكن وعينا بحاجة لبذل جهد كي نركب أسم محمود درويش على كسمه، كان-هو- يحتاج لصدف واحتمالات وسياقات كي يتعرف على أسمائنا ويقوم بتركيبها على كسومنا المتخيلة عنده. في هذه المعادلة غدا محمود درويش بدلالاته ومعانيه معروف لنا على نحو وافر.
***
في صباح باكر من صباحات سنة تقع في أواسط الثمانينات من القرن الماضي ، كنا هناك بمحض الصدفة –دائما- ، في مقهى المغادرين بمطار تونس - قرطاج ، محمود درويش مسافرا باتجاه الشمال الرغيد، وأنا وصديق أخر نودع صديقا ثالثا لنا يسافر في اتجاه متعب.
وصلنا إلى المقهى قبل درويش بقليل ، وعندما دخل درويش بعدنا للممارسة طقس احتساء قهوة ما قبل السفر، جلس على طاولة مجاورة لنا، تبادلنا معه تحيات الصباح على نحو مقتضب بدون زيادة، وطلب قهوته التي كنا طلبناها من النادل قبله بقليل .
وصلت قهوتنا قبل أن تصل قهوة محمود درويش ، من باب اللطف والتكريم عرضنا عليه قهوتنا، شكرنا بحزم أنيق تشوبه بعض الريبة، أو هكذا شعرنا، لم نتبادل معه تعارفا ولا إفصاحا، غادرنا المقهى قبله وودعناه باقتضاب، وشكرنا باقتضاب أيضا، ذهب هو نحو الشمال، وعدنا نحن إلى ثنايا تونس، تذاكرت أنا وصديقي بشأنه قليلا ، وتوافقنا على أن محمود درويش شكرنا على عرض القهوة بريبة توارت داخل امتنانه الذي بدا جزيلا.
في تلك الحقبة كنا على روابط شتى مع نص محمود درويش وما يثيره فينا من معانٍ ومن جمالات موجعة: دواوينه، قصائده المتناثرة، مجلة الكرمل، ومطارحاته مع سميح القاسم بمجلة اليوم السابع والأمسيات والمرويات المختلفة له وعنه.
***
وفي عام 1990 تكونت لحظة لقاء التعارف مع محمود درويش بمحض الصدفة ، كان ذلك في مدخل مقر الإعلام الموحد في حي المنزه السادس شمالي تونس، يومها كان محمود درويش يزور احمد عبد الرحمن الذي كان يتولى إلى جانب مسؤولية الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية، الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ورئاسة تحرير مجلة فلسطين الثورة، وهو رجل ينطوي على مساحة مختلفة بالمعنى الايجابي في مقاربة السياسة واليوميات والعلاقة مع الناس، عاش داخل كثافة المشهد الفلسطيني بطريقة تخصه، وتمتع بطاقة مبادرة في التعامل مع المسائل كانت غير ملحوظة سوى عند عدد قليل من زملائه في النخبة الفلسطينية.
يومها كان محمود درويش في زيارة لأحمد عبد الرحمن، وتزامن وصولي لزيارته مع لحظة وداعه لمحمود درويش على المدخل الخارجي للمقر، سلمت على الاثنين، فسأله أحمد عبد الرحمن بلطف، هل تعرف محمد فرحات، فرد درويش بكياسة من لا يعّرف الشخص الذي قدم إليه بغتة بالقول"الوجه ليس غريبا". فقلت له، أنا احد مواطنيك، احمل اسم محمد نعيم فرحات، ويكفيني أنني أعرفك نصا ومعنىً على نحو عميق وخاص. فقال لي هو أنت "محمد نعيم فرحات" قلت نعم، فعلق بأناقة، انه معجب بمقارباتي للمشهد الفلسطيني وبجمالية التطرق وتناول اليوميات السياسية الفلسطينية، كما تنقلها إذاعة الشرق في باريس، التي كنت اعمل فيها في تلك الآونة، مندوبا للشؤون الفلسطينية في تونس، وكان محمود درويش يقيم في تلك الفترة في فرنسا ويسمع إذاعة الشرق بانتظام، شكرته وقلت له، أنا محظوظ بوجود مستمع خطير في باريس بحجم محمود درويش، يومها بالذات طلبت منه رقم هاتفه في فرنسا فزودني به، وكنت أتواصل معه من حين لأخر بصفتي "عابر سبيل" وقد تكرست هذه الصفة في كل اتصالاتي معه وحيثما كنت التقية وقد استحبها، وقدما مع الزمن توارى اسمي الحقيقي في ثناياها.
....من طبيعة الكلام واللحظات والروايات أن تستدعي بعضها بعضا ،وفي باب التداعيات، قد يكون من المناسب الإشارة إلى لحظتين: الأولى تتعلق بأحمد عبد الرحمن، إذ سبق أن عرفته مباشرة في زيارة كانت الأولى لي للراحل ياسر عرفات في مقره بضاحية المتيال فيل شمالي تونس، بصفتي مراسلا صحافيا وكاتب مقالة في منابر عدّة.
يومها وبعد أن سلمت على الراحل ياسر عرفات اتجهت إلى حيث كان يجلس أحمد عبد الرحمن وحيدا على يسار عرفات ، في طريقي للسلام عليه، سأله الراحل عرفات: هل تعرفه يا أحمد. رد بالقول، نعم ، أعرفه من خلال كتاباته. عندما غادرت مقر الراحل ياسر عرفات، دعاني أحمد عبد الرحمن بكرم لزيارته في مقر الإعلام الموحد، ففعلت، ومنذ ذلك الوقت تربطني به مساحة خاصة ومميزة ،رغم أنها ظلت لاعتبارات موضوعية محدودة.
احتفظ الراحل ياسر عرفات الذي كان لديه حس خاص إزاء الإعلام وأهميته- شرحه ذات يوم على نحو نبيه كريم بقردوني - بأحمد عبد الرحمن في خطوط الجبهة الداخلية مقلدا إياه مسؤوليات متعددة ووازنة وليس في الخطوط الصاخبة، هناك كان لأحمد عبد الرحمن حضور مستدام وهام، وكانت له قدرة خاصة على قراءة المشهد الفلسطيني من خلال رئاسة لتحرير مجلة فلسطين الثورة ومشاركاته السياسية متعددة المستويات، ولاحقا، قدم واحدة من أهم الشهادات الفلسطينية عن تجربته تحت عنوان "عشت في زمن عرفات" لم يجعل من المشهد دليلا على حضوره الشخصي ، بل روى بتوازن غير مألوف عند اغلب الفلسطينيين المعاصرين شهادته ،وهو نص هام يستحق التمعن فيه بعمق. وقليلة هي النصوص السياسية الفلسطينية التي تتمتع بالجاذبية.
اللحظة الثانية تخص حادثة عتب بين عبد الباري عطوان ومحمود درويش ، كتبها عطوان بعد موت درويش يقول فيها، بأنه قد دأب على الاتصال بدرويش على مدار سنوات إقامته الأخيرة في باريس، الساعة الثانية عشر ظهرا من كل يوم سبت ، وحصل أن عبد الباري عطوان لم يتصل به ذات سبت كما هو معتاد ، وعندما تحدث إليه لاحقا، عاتبه محمود درويش - كما يروي عبد الباري عطوان- وقال له: لا أحد يتصل بي في هذه الآونة سوى أنت و"عابر سبيل". قد يحتاج الأمر لتحقيق ما، فيما إذا كان عابر السبيل الذي تحدث عنه درويش، هو المشار إليه هنا، أم أن هناك عابري سبيل آخرين...
***
عام 1993 عرفت بان محمود درويش في تونس ، وانه سيتلو خطبة الوداع الفلسطيني على مسامع تونس البهية في المسرح البلدي بالعاصمة، اتصلت به حيث كان يقيم، وفي السياق سألني، هل ستأتي إلى المسرح البلدي هذا المساء، قلت له، قطعا وبدون شك، لقد أبرمت اتفاقا نهائيا مع عباس زكي للذهاب معا لحضور الأمسية، وفاوضته كممثل لشعب مغلوب لقيادته وبها .
تحول الحديث بيني وبين درويش ليصير عن عباس زكي: يومها قال لي درويش أثمن جمله قيلت أو ستقال يوما في عباس زكي:قال إن عباس يشترك في الخصائص العامة مع زملائه في القيادة الفلسطينية- ومن باب النزاهة في الرواية فقد كانت دلالات التشارك هنا بالمعنى غير الايجابي- غير انه من قليلين جدا فيهم والقول لدرويش الذي يحمل ملامح"مثقف بالسليقة"، فقلت له بحسب خبرتي المتواضعة- وهي خبرة متعبة على أية حال- بالقيادة الفلسطينية ونمط تفكيرها وعباس زكي على نحو خاص، يمكنني القول بجزم، "كلما انحاز عباس زكي لهذه لملامح المثقف بالسليقة كلما استخرج من نفسه أفضل ما يوجد فيها،وكلما ابتعد عنها وذهب إلى المشترك، كان يغوص مع الغائصين، ومشكلة جماعتنا- قيادة وعامة وما بينهما- عموما، هي الاستلاب لجاذبية المشترك حيث انه عزيز على قلوبهم ووعيهم وعادات تفكيرهم. مشترك تقول سيرته وتجربته ، أنه عاقر لا يفضي لممكنات بناءة وجاذبة لا في السياسة ولا في غيرها، وكانت الضرورة والحاجة تملي إقصاءه لصالح مشترك من نوع أخر، وهذا ما لم يحصل حتى ألآن في تجربتنا، وما نتواطأ جميعنا على تلافيه من الأمس حتى الغد".
في ذلك المساء قال درويش في المسرح البلدي خطاب وداعه المهيب الذي يليق بتونس الحنونة، ثم تفرق جمعنا بعدها كأيدي سبأ من جديد.
***
بعد سنوات من التباسات لا حصر لها توجت نفسها باتفاق أوسلو،عاد فيها محمود درويش مع العائدين، على نحو مضنٍ: من يقين الوطن الذي ظل فكرة عالية تولى المنفى صيانتها وتصعيدها، إلى قلق المكان المتاح . وكنت أنا من بين جموع العائدين - غير الغانمين على أي نحو- أواخر عام 1996 إلا مما تبقى فيهم من أشياء يحتاج الدفاع عنها والمحافظة عليها إلى عزم أولياء، كي يصمدوا في وجه طوفان اللحظة وأوهامها وسريالية انفصالها عن الواقع. لحظة ستظل فارقة بقسوتها في تاريخ الوعي الفلسطيني المعاصر.
لقد عرف الفلسطينيون في تلك التجربة بدون أن يتحصنوا بوعي ملائمٍ وإدراك كافٍ، حالة العودة للمكان بديلا عن العودة للبلاد. لقد كان الوعي المناسب والمكابد والمعني ، شرطا غائبا، ترتب عنه فيما ترتب، وهن القدرة على تحويل التباسات العودة لرأس جسر نحو شيء أخر مختلف، قد يفضي لاستعادة معقولة للممكن من البلاد والعودة إليها. استوعبتهم لعبة المكان وأخذتهم في ثناياها. لكن، لا اللعبة رحمتهم،ولا هم رحموا أنفسهم، وتحركوا بوهمهم متعب في أفق من خسائر مكلفة لا زالت تتراكم، ولم يستطيعوا الذهاب نحو خيار أخر مبني على وعي مكابد .
تحت صدمة الارتطام بكل شيء، وفي ظل مناخ كا يخيم بقوة حيثما وليت وجهك أو وعيك، بحثت عن محمود درويش كحاجة وكضرورة وكتعويض، كان محمود درويش بدوره يتدرب على كيفية الاختلاء بنفسه وأسئلتها في مركز خليل السكاكيني بمدينة رام الله، الذي فُصل له وصممه بنفسه معا، ارتجلت الزيارة إليه، فوجدت عنده رجلا عزيزا، كان من بين أفضل فلاحي فلسطين، الذين مارسوا العمل السياسي، هو الراحل سليمان النجاب، الذي جمعتني به علاقة صداقة من نوع خاص، لها فصول تستحق أن تروا، إبان عضويته للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عن الحزب الشيوعي قبل أن يصبح لاحقا حزب الشعب.
بعد لحظة استئناف وجدانية عاطفية إنسانية قلت له " لقد نكبتنا يا أخ محمود، قال، موافق على الوصف، لكن كيف نكبتكم!. قلت لما بشرتنا ، بأننا" على حجر سنبني دولة العشاق"، لم نجد الحجر وجرى تشريد العشق والعشاق معنا ، فقال ، يا مجنون هذه كانت مقاربة الشعر الجمالية للحلم والهدف، وهي صحيحة وصائبة، غير أن سبب النكبة يوجد في مكان أخر، في دور الفاعلين السياسيين ، وكيف قاربوا الأمور وتعاملوا معها وليس في الشعر ، وهذا ليس دفاعا عن الشعر، ولدينا بالصدفة شاهد يمكن أن نسأله. وافق سليمان النجاب على مرافعة درويش التي تدين السياسة كثيرا، ولم يكن الأمر بحاجة لموقف منى، لأنني أساسا كنت هناك، غير أن قوة احتجاج عاصفة ضد الذات والواقع وكل شيء، كانت تعصف بنا فرديا وجماعيا بدون رحمة، وكنا بحاجة لتوجيهها في أي منحى.
***
في عام 1978 تم نقل جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، كرد فعل سياسي "أعرابي" الطابع على قيام السادات بغدر مصر ونفسه والمنطقة وعواطف شعوبها ومصالحهم، بعقد صلح منفرد مع إسرائيل، الذي أفصح من خلاله - كما تجلى لاحقا- عما كان يدور في خلد أغلب زعامات المنطقة العربية. جراء ذلك أقام محمود درويش في تونس بصفته مستشارا ثقافيا لامين عام الجامعة الشاذلي القليبي، وهو مثقف تونسي معروف قبل أن يكون سياسيا، تقلد مهمة متعبة من حيث لم يحتسب يوما.
في تلك الفترة تكونت لمحمود درويش صلات وروابط مع وجوه تونسية مختلفة، كان من بين هذه الروابط وأكثرها دواما، العلاقة التي جمعته بالطاهر لبيب، وهو أستاذ بارز متخصص في علم اجتماع الحب عند العرب، ووجه فكري عروبي الثقافة بالسليقة وبالاختيار، معروف جدا في تونس وفي مغارب العرب وفي مشارقهم معا.
كانت أول معرفة لي بالطاهر لبيب عام 1984 بعد أن كتب نصين، ونشرهما في جريدة الرأي التونسية المستقلة، بعد الغارة الإسرائيلية على حمّام الشط في تونس، النص الأول وجداني بعنوان" عن حمام مّر يوما بحمّام الشط" تحدث فيه عن وجوه لفلسطينيين يعرف ملامحهم لكنه لا يعرف أسمائهم، كان يراهم حيث يسكن في بيت له هناك في العطلة الصيفية قضوا نحبهم في الغارة الإسرائيلية، والثاني نص فكري بعنوان " نحو رؤية حضارية للمسالة الفلسطينية" أشار فيه إلى أن المسألة الفلسطينية هي أخر معاقل العرب التاريخية.
نصا طاهر لبيب قاداني للتعرف إليه، حيث كان عميدا للمعهد الأعلى للتنشيط الثقافي في تونس العاصمة، ومنذ ذلك اليوم نشبت بيننا علاقة يصعب وصفها، تشمل كل أفاق الجمال والعروبة وعلم الاجتماع والجمعية العربية لعلم الاجتماع وكل شأن ممكن. علاقة كونها كلام لا زالت تتصاعد في ثناياه فصولا تلو أخرى.
في سياق ما، عّرف كل من محمود درويش وطاهر لبيب طبيعة صلتي بهما، وفي زيارة لمركز خليل السكاكيني أوصلت لدرويش سلاما حملني إياه الطاهر لبيب .
استدعى درويش ذكريات جمعته بالطاهر لبيب، وقال لي، سلم عليه وقل له" نصك كريم وجميل مثلك يا طاهر، فلا تظل كسولا في إنتاج النصوص" قلت له سوف افعل ، وقد فعلت لاحقا، ومنذ ذلك اليوم صارت علاقة الطاهر لبيب بمحمود درويش وبالعكس جزءا أصيلا في لقاءاتي بكليهما، في بيروت أو تونس أو عمان أو رام الله أو في المكالمات أو في الرسائل.كل منهم يحملني مودته للأخر، مودات كانت تصل ولو بعد حين من الدهر، إذ بعد أن تفرقت بهم السبل على جري عادة العرب، فقد افترقوا دون أن يقصدوا منح الافتراق فرصة قطع التواصل.
في فصل لاحق من هذه الرواية سيكون هناك أمر عن محمود درويش ينتمي لعالم الغيب، سيتم الإفصاح عنه للطاهر لبيب وليس لمحمود درويش صاحب العلاقة.
***
في مطلع عام 2004 وبعد إحياء ذكرى الأربعين لرحيل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي أقيمت في أحد مسارح رام الله، التقيت محمود درويش عند باب المسرح ، كان الوقت شتاء وكالعادة كان شتاء فيه برد وقح غير مكتمل اللياقة، وكانت الإضاءة خافته، كان علىّ بضع خطوات مني، ندهت باسمه وسلمت عليه، رد بسرعة "الصوت مألوف لكنني لم أتبين الوجه جيدا" قلت له أنا عابر السبيل ، أخذني نحو مكان إضاءة أفضل ، وقال لي يبدو وجهك أجمل وأكثر تبلورا، وصرت أنصح مما كنت عليه، فقلت له" قد يكون الجمال الذي تراه عيناك، يعود لما قلته يوما "عن إمكانية الازدهار في الأزمات" أما النصاحة فقد تكون جراء تضخم الأسئلة المتعبة التي نواجهها في المكان حيث تقيم ونقيم، الصحة التي تنتجها "هداة البال" وجمالاتها تحتاج فيما تحتاج لوطن معنوي وملموس في أن"، عقب محمود بشتيمة خفيفة الظل ،وقال دعني أراك في مركز خليل السكاكيني بأثقال العلاقة بين المكان والوطن أو بدونهما. تعال إلى هناك.
زرته لاحقا وقلت له فيما قلت، تتوفر لي على نحو أو أخر، إمكانية ما، كي أكون صديقا لك: قريبا أو عاديا أو بعيدا، غير أنني لن أفعل ذلك أبدا، ولن أسعى لآن أكون من أصدقائك بالمعنى الفلسطيني ، فقال لي لماذا ! قلت له، لأنني أريد أن أحتفظ بعلاقتي مع محمود درويش النص والمعنى، ولا أريد الاقتراب من الشخص أكثر مما هو متوفر لعابر سبيل، لقد تعلمت درسا في علم الاجتماع يقول بان تبديد المسافة مع الشخوص أيا كانوا يكون غالبا على حساب رمزيتهم، ثم ألم تقل يوما بأن" الطريق إلى البيت أجمل من البيت" نحن اقتنعنا بما قلت وبصوابه عموما. رد بقوله على نحو محبب : أنت ماكر لئيم وعلى المرء أن يكون يقظا وهو يتداول ثنايا كلامك.
***
في عام 2006 أقدم محمود درويش على فعل جمالي روحاني بإقامة أمسية في جامعة بيت لحم، في مدينة السلام، المدينة التي قالت السماء العالية منها على لسان السيد المسيح" إن الكلمة لمن الروح القدس" قدمته فيها للناس على نحو مفعم، أستاذة الأدب الانجليزي بالجامعة فيرا بابون.
في ضحى اليوم التالي اتصلت به في مركز خليل السكاكيني، وقلت له،لقد كان ما رتلته بالأمس في بيت لحم جميلا على نحو مروع، أظن بأن المدينة لم تشهد مثله، منذ ما بعد رفع السيد المسيح عليه السلام إلى السموات العلا. وأنت سليل أمة عندما جاءها رسول كريم بكلام الله العزيز المتعالي، قالت عنه: ساحر أو شاعر، وهو أمر بالغ الدلالة، يحيل للتوقف عند التأويل الذي يرى في الشعر أقصى الروح الذي يستطيع البشر إنتاجه لأنفسهم، فرد بالقول، إياك أن يسمعك أحد فيفتي بصلبك، قلت له لا تجديف فيما اجتهدت ، وفتوى الصلب هذه الأيام لا تحتاج لقرائن وحيثيات، قد يصلب المرء حقيقة أو مجازا، بل إننا نعيش حالة صلب بدون جلجلة، صلب لا يحتاج لحجة أو لقرينة يجري بدون خيال أو جمال . وقلت له فيما قلت سوف تتعبنا كثيرا ونحن نستذكرك بعد موتك، فقال : يا مجنون لا يهم الموتى ما يقوله الأحياء عنهم، لأنهم ماتوا.فقلت لكن ليس لدينا سوى الكلمات.
***
ذات ليلة في نفس العام، رأيت فيما يرى النائمين الغافلين، بأن محمود درويش قد مات، فزعت من حلم أرهق وجداني، أبلغت الطاهر لبيب، عن حلمي وعما أثاره من متاعب في خلدي ووعيي. ومنذ ذلك الحلم بدأت مرثية محمود درويش تكتب نفسها على مهل.
بعد فترة قصيرة وبتأثير الحلم زرت محمود درويش في مركز خليل السكاكيني وقلت له، لك عندي نص عنك يكتب نفسه على مهل لن أرسله لك يوما، سألني لماذا ، قلت له لغاية في عالم الغيب. النص الذي لم أسلمه لمحمود درويش وما كنت لأفعل ، هو مرثاته التي كتبت نفسها على مدار أشهر ولحظات وأمكنة، وكان موت محمود درويش فقط هو شرط ظهورها:
اسمع يا محمود درويش، حيث أنت بعهدة ربك هناك، أسمع الكلمات التي كتبت نفسها وأنت على قيد الحياة كي تقول فيك وعنك.:
يا أبن الساحلِ السوري، وصدى كل الهلال الخصيب، وأعالي العروبة وأعلى العرب، ابن البدايات التي صَعدتْ بنا وتَصعدتْ نحو النصر بالكلمات، فانتصرنا بما تركت لنا من كلام له أفاقاً ستبقى إلى أبد، كلام عصف بالسقم الذي فينا وحول المعاني لجيش من الروح الناهضة التي تأخذ في طريقها كل شيء، كل شيء، وأعادنا لأنفسنا سالمين مع جروح بليغة ، كانت شرطا لاستعادة وعينا المنشود. كلام أرسل نفسه ومعانيه في أربعة أرجاء وجودنا وأكثر كي يستعيدنا من الخيبة والانكسار، وكان مزودا بوصية واحدة فقط: يعودون قتلى وُيعلن عن موتهم أو يعودون غانمين قادمين، ربحوا معركتَهم ضدَ شوائبهم، ليذهبوا في الطريق الشاق نحو الفوز بحروبهم ضد أعدائهم، محمولين على أمر واحد فقط: أن يكون اندحارُهم الوحيد وتنازلهُم الأخير هو النصر لا غير، فطوبى.
.. محمود درويش، صاحب الجسد الرقيق المليء بالحزم والنزق في تفاصيله وثناياه، لطالما بدا كروحٍ تقوم في جغرافيا شكلاها ضباب إغريقي وصوان لتوهما، واستراحا قليلاً في أرجائه الحادة، قبل أن يتعهدهُ الغمام ويذهبُ به في النشيدِ: ليروي ويقول ويَشهد وُيدينُ ويَستولدُ ويَرفعُ ويَكشفُ ويُميطُ الحرير عن البسيطِ، ويَصعدُ بنا وَيهوي بجمال قاسٍ، ويُعرينا كي يؤثث روحنا وكبدنا ووجدنا بالقيامة من جديد، ويحملنا عنوة إلى هناك، إلى حيث: يجب، ويتعين، ولا يفترض أن نخذل أنفسنا وننكسر...!!
...على قلق اليقين نام، و"كأن كل الريح تحته"(1) أو لا شيء أصلا، وكان يصحو على نص لا يعودُ له ما أن يقوله(2). نصٌ ينتظم دون عناء في صيرورةِ إعادة تشكيل الوعي وأعماره، وفي هندسة الروح والمعاني والأزمنة والجمال والذائفة والثقة، وتوليد القوة والقدرة من العذاب والخيبة والانكسار والوعد، ولطالما شد شعبه-الذي حولته ريح عاتية لعهن المنفوش- لقرون يابسة ليقف عليها في طريقه لاسترداد معناه، إن نصوص درويش وعمارتها قد كانت من أهم ما قيل في تاريخُ قولنا المعاصر، التي حاولت ترتيبَ الروحِ والوعيِ بجمالٍ موجوع.
غير أن قائد جبهة الكلمات قد سقط في واد المقاومة العظيم مدرجا بالمعاني، لقد كان مقاومة بأكملها ترامت بين ثنايا شخص واحد وكان "صموداً بوجه الموت والاستبعاد وما لا يمكن اغتفاره وبوجه العارِ والحاضرِ " (3) مُبشرٌا بالدروب الجديدةِ. وبينما يذهب صوته بعيداً بعيدا، فقد بقيت فيالق الصدى تملأ الأفق. لقد تعين عليه أن يموت وبتواطؤ الأبهر في قلبه، القلب أعظم الخونة في التاريخ والذي تتحدد(بعض) عظمته ببعض خيانته، وما كان لعاشق أن يفني دون أن يسقط قلبه صفحة تلو صفحة وجبهة بعد أخرى.
...مات محمود درويش بعد أن رسم للشعر سقفاً عالياً وشفافاً سقط دونه كثيرون رمياً بالكلام، وبعد أن حولنا سبابا لنصوص تأخذنا في المدى لتعيد تشكيلنا من جديد، وفي إحدى معاركه الفاصلة أطاح بوجدان أعدائنا بفصيلة من الشعر حولتهم لـ "عابرين في كلام عابر"(4) وفي كل حروبه خرج منتصراً بدم كلماته، بعد أن أطاح سيف عدوه، ولم يحصل أن ترك الحصان وحيداً، لان جياده ظلت تنحدر في كل لحظة من ثنايا الكلمات، وكان القول يفر من جنباته ليعتلي الجياد، ويذهب بعيدا في المدى. وفي الأرض الأكثر مشقة "خاض الصراعَ بظفر"(5).
وكان محمود درويش سيد النشيد العذب، نشيد إستولده بروح سومرية من نفس الوجع و أيام العذاب. زرع حياتنا بالفواصل وبالحروف وبالقوافي واودعنا بعدتها، قوافيٍ تكفي لانتصار "أمتين على شهواتها وعلى الغزاة". وكان نصراً كامنا في وجه المآسي، نصرٌ يبشرنا بأنه على وشك الوصول إذا شئنا، ولطالما صعد بنا من الركام نحو أفق مختلف. ومضى في ومع "الصاعدين إلى حتفهم باسمين"(6). وصفى حسابه مع الراهن والعجز والخيبة بقسوة الشعر، واتجه نحو غده المنشود من صلب أمسه البسيط. وحاصر القادمين بإغراء العودة لأرض "فيها ما يستحق الحياة"(7) ولأهل "ذهب أبنائهم مع العودة"(8) فرجعوا بغنيمة المحاولة الكسيرة، فكان أن صار "الطريق إلى البيت أجمل من البيت".(9) طريق كانت على عشرة طيبة مع التصدع والانزلاق، سقط فيها على هيئة قتلى من لم يستطيعوا فيها سبيلا، أما الماجدون فكانوا عتاةً في البحث عن "الطريق إلى الطريق" وما لانت لهم قناة، غير أن درويش لم يسقط ولم تنكسر رؤيته لانه مضى" مستسلمٌا لصواب قلبه"(10) وواصل التمادي في جمالات الطريق حتى سار منها وفيها: منارة ونبؤة ونشيداً وتعويضا ثمينا لمن كُسروا وما سقطوا. لقد كان عكس الكسيرة والانهيار، قاسيا ورشيقا وهو يستولد من ثنايانا-بصعوبة و بصبر - أفضل ما فينا، لنواصل السير في الطرقات الأجمل من نهاياتها، بثمن الموت تماما كما يتطلب الأمر ذلك.
***
... عاشق أفنى العمر في خرق القواعد، امتد من حيفا إلى حلب وبيروت وقرطاج وأندلس وشام وما تيسر من مدائن شرق وغرب، وفي أرض المعاني المفتوحة على كل مصراع. ، وكان "شاعر الشعراء منذ رسائل المصري في الوادي"(11) و"الأعلى من الشعراء شنقا وادناهم الى عشب يميل "(12). شاعر ظل القلق يسلمه إلى يقين وبالعكس، وعندما وصله خريف العمر ترفق به وعلى مهل مشى، وكان الخريف كريما في منح الفرص: يوم إضافي، سنة أخرى فقط، لا بأس، لا بأس؟؟ إلى أن وضع الخريف يده بيد الموت ليقول لنا بحزم هادئ: صباح الغد لن نعثر على الشاعر، فلا قهوة لقتيل كان يعشق عليل البن في الفنجان. ولا شعر ولا ضجر ولا نزق... ولا صدف، أما اللقاءات التي لم تتسع لها الدنيا على سعتها، فقد قطرت نفسها واثقة إلى الحياة الأخرى، وظل الموت هنا أيضا شرطها الوحيد.
***
...ولطالما " كان" يكره الفعل الماضي الناقص، بيد أنه كان رغما عنه: قلق بأكمله يتمدد في سرير فيفيض فجراً وقد ترتل في نشيد، نام على ألف أندلس وأكثر ليستفيق على حلب وأخرى، ولم يعلن التوبات كي يُريح وَيستريح، وكان فوضى ينظمها الكلام، وامتلاك ساحر لا يستخدم اللمس إلا قليلاً. مُترع بشكوك اعتادت أن تسلمه لفيض سؤال كانت بسالة الجواب عنه تضع درويش في منحنى يقين أصيل. وكان طريدا لتكريم الملوك يخرج سالماً من التباسات العروش، وإن لم يخرج سالماً، أو لم يشأ ، أن يخرج سالماً من التباسات الجمال.
...وذات يوم طمأننا بأننا سنبني ودون شك" على حجر سنبني دولة العشاق"(13) ولما تسألنا عن الحجر الشاق كي نقيم عليه الدولة ونُنِزَلها من الفكرة والنص وغفوة الحلم ونثبتها في الصخر، وصلنا توبيخة القاسي: لا حجر يقول لا، لكن يوجد رجال لا يعرفون كيف يطلبون".أما الفكرة العالية فلا يجب أن تنزلق إلا في حيز واحد فقط، هو لياقة تعبيرها عن ذاتها.!!!؟؟؟
...لم يأخذ في آخر الرحلات وأطولها إلا قصيدته الأخيرة التي لم يقلها بعد، أبقاها معه لتؤنسه في طريق النهاية، فطوبى لمن يذهبون إلى حتفهم وهم يحملون قصيدتهم أو ما تبقى.. وذات مرة قال؛ لا يهم الموتى ماذا يقول الناس عنهم لأنهم ماتوا، فقلت له: ولكن الأحياء يتحدثون لأنفسهم من خلال موتاهم، كما أنه ليس لدينا سوى كلمات. لا، "ليس هناك سوى الكلمات"(14) يلتقي فيها الأحياء والموتى، وها قد مت بعد أن استودعت المعنى أمانة عند الكلام؟؟؟؟؟.
* * *
...كتب المراثي كلها ولم يترك لنا ما نرثى به سوى ما قال فـ"طوبى". ولكن اسمع آية الموت: لطالما كنت شهماً وقاسياً ونعرف أننا سنلقاك وتلقانا، غير انك تطوي ما تبقى من كبارنا، وكالعادة، تفعل ذلك: بلا هوادة أو رحمة وبلا وارثين. أنستحق كل هذه القسوة؟؟ ربما لا، نعم، مرتين!!! وقد وصلتنا رسالتك: ستتركنا في العراء كي نعيد ترتيب المعاني بالقوافي أو بلا. غير انك جدير بالامتنان أيها الموت، لأنك لم تأخذ الكلمات والمعنى، وهذا ما سيعيد لنا درويش دائما وسيعدنا لأنفسنا كي نصبح غانمين بثمن الهول والوجع والانكسار ووعد النشيد. كما يستق الموت بعض الشكر، لأنه تأنى قليلا وتأخر قليلا وعَدلَ مواعيده احتراما للقصيدة وحاجة النشيد إلى الوجع، وتواطأ على تسلل المعنى من وراء ظهره، فطوبى لموت تمهل فأجل نفسه ثم طواك.
أما أنت يا درويش فلم تخذلنا في عز حاجتنا إليك، لقد كانت هذه عادة وأقدار من يحتاج لهم الناس كما لم يحتاجوهم من قبل، لكن يحق للقصائد والأيائل التي تركتها لذويك أن تعتب، وسوف تتعب الكلمات وهي تبحث عن معانيها، وسيتوه الغّمام إلى اجل يقصر أو يطول وهو يحاول إيداع القصائد في مدارات النشيد . وسوف نختلف على الخلافة، وعلى من نسمي خليفة، ليأخذ البيعات منا عنوة بخاطرنا في قيادة الكلمات والمعنى. وسنسأل عمن سيعدنا لبصيرة بعد فقدان البصر.وعمن سَيحولُ موتنا لأغنية أو نشيد. وكيف سنستولدُ الندى والأريج من صخر ومن بؤس ومن وجع ومن توق وتيه. ولماذ تتركنا "في بطن ليل من حديد"(15) تقطعنا الانكسارات ونقطعها ذهابا وإيابا، نحو وعد مؤكد للنصر في ارض القصيدة ، نصر لا زلنا نضل الطريق إليه .
* * *
اسمع يا محمود درويش:
...لطالما أرهقتنا وسترهقنا أكثر، ونحن نجمع المعنى من حقول الكلام ومن صداه. بيد أننا لن نتعب كثيرا، ونحن نحاول العثور عليك "في قمر تلألأ في يد امرأة" (16) بشام أو بحيفا أو بيروت أو عمون أو قرطاج أو اللازورد أو بابل، أو، وأنت ترسم للمحاصرين طريق خلاصهم ، وترد الغزاة على أعقابهم مثخنين بالكلمات، فطوبى.
إن من كان منهم وفيهم محمود درويش ، قد: يُكسرون أو يُحطمون أو يُغيبون أو يَهونون ، بيد أنهم لن يعرفوا طعم الهزيمة أبداً.
* كاتب وأستاذ في علم الاجتماع - فلسطين
هوامش وإحالات
(1) المقتبس هو شطر بيت من الشعر لأبي الطيب المتنبي، وذات يوم مرة قال محمود درويش، إن كل ما قاله لا يوازي شطر بيت المتنبي "على قلق كأن الريح تحتي "
(2)يقول جيل دولوز: مقالتان عن الأدب الإنجليزي الأمريكي، فصلية الكرمل، عدد47(1994)ص.154 " أن نكت فإننا نهب دائما كتابة لمن لا يملكوها، إلا أن هؤلاء يهبون الكتابة صيرورة لن تكون هي بدونها "
أما جان بول سارتر فيقول في(.......) "إن عمل الكاتب لا يمكن أن يحقق كماله إلا بالقراءة[التي هي عقد مروءة بين المؤلف والقاري] ولآن إدراك جوهر العمل [يتم]عبر وعي القارئ فقط،فإن كل عمل أدبي هو في العمق نداء.."
(3)جيل دولوز وفيلكس غوتاريك: ما هي الفلسفة، عرض كاظم جهاد، فصلية الكرمل عدد41(1992)ص189
(4) من نص لمحمود درويش……….
(5) يقول شيلنغ "نقلا عن كاظم جهاد:محمود درويش:احد عشر كوكبا، فصلية الكرمل عدد47(1993) إن الفلسفة والفن هي التي يمكن خوض الصراع فيها بظفر.
(6) من نص لمحمود درويش……….
(7) من نص لمحمود درويش……….
(8) من نص لمحمود درويش……….
(9) من نص لمحمود درويش……….
(10) من نص لمحمود درويش……….
(11) من نص لمحمود درويش……….
(12) من نص لمحمود درويش……….
(13) محمود درويش: في وصف حالتنا، الطبعة الأولى (بيروت، دار الكلمة، 1983)ص. ويقول محمود درويش هنا "إن الأدب هو الذي قدم للفلسطينيين ومنحهم تعويضا عن مهانات عندما فقدوا كل شيء، ولم يملكوا إلا الكلمات، وقد استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة مع [مكانهم الأول]"
(14) من نص لمحمود درويش……….
(15) من نص لمحمود درويش……….