أوسلو في لحظتها التاريخية

304171536843435.jpg
حجم الخط

 

لا موجب في هذه الأثناء، للدفاع عن اتفاق أوسلو لإعلان المباديء. في الوقت نفسه، لا منطق في الإسراف الكبير في ذمها وجعلها خيانة وسقطة وسقوطاً في مستنقع التنازلات. فالرجل الذي ارتضى التماشي معها، وهو الزعيم الشهيد الباسل ياسر عرفات، خاض فيها دون أن يتخلى عن رؤيته الوطنية، وربما يكون قد تفاءل بأنه سيفوز في مباراة التفاصيل، عندما تُطلق صفارة البداية للمباراة الحاسمة على الوضع النهائي. فكل ما تتضمنه أوسلو كان خطوطاً عامة، تجاوب معها الرجل في لحظة تاريخية صعبة، كنا فيها محاصرين عربياً ودولياً، على إثر الاجتياح العراقي للكويت، وحرب إخراج العراق منها ومن ثم احتلاله!

الأطراف التي تستذكر اليوم اتفاق أوسلو، تعرف أن ما جرى قبلها بأحد عشر عاماً، كان حرباً لكسر معادلة التساند بين منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، وشعبها في الداخل، من خلال تصفية الوجود العسكري للمنظمة في لبنان.  وقد انتهى ذلك السياق، بانتقال قيادة المنظمة الى تونس على بعد ألوف الكيلومترات وفقدان خط التماس مع الوطن. قبل ذلك، وبعد الخروج من لبنان بخمس سنوات، اندلعت الانتفاضة الطويلة الأولى في ديسمبر 1987 فأنتعش الوضع السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية من جديد، وبعد ثلاث سنوات من تلك الانتفاضة، حلّت نكبة العراق، فانقسم العرب عربين، وبدأت عملية حصار منظمة التحرير وتجفيف مواردها المالية وفقد الفلسطينيون المساندة العربية تماماً، وبدأت عملية رسم المصائر، وانطلق مسار التسوية بصيغة مدريد واشنطن الذي وصل الى طريق مسدودة، أو سُدت عمداً، لكي ينفتح مسار أوسلو للاتصالات السرية التي تولاها وتسابق عليها عدد ممن يتولون مراكز مهمة في فتح ومنظمة التحرير وأبرزهم محمود عباس وأحمد قريع وياسر عبد ربه، وعدد ممن بلغوا ذروة السعادة باتفاق إعلان المباديء، ولم يسهم أياً منهم أو حتى لم يفكر، عند بدء تطبيقات أوسلو،  في ضرورة قيام البُنية الاجتماعية ــ الإقتصادية والسياسية لزيادة ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية على الأرض وخوض المغامرة أو التهيؤ للتحدي باقتدار. ودخلت على الخط، دون انتظار، القوى الراغبة في خوض الحرب الفورية، مستفيدة من هامش الحركة الذي أتيح للسلطة، لنقل المعركة بالتفجيرات الى أراضي احتلال 1948 ولم تكن نتيجة ذلك، سوى إضعاف الطرف الإسرائيلي الشريك في عملية التسوية، جدياً أو تحايلاً وإسقاطه على خارطة المشهد الإسرائيلي، وإحلال القوى الأشد عنصرية وتطرفاً، والرافضة لأوسلو من جانبها، واعتلائها سدة الحكم والاستمرار فيه كلياً، أو بصيغة حكومات ائتلافية كانت الغلبة فيها للمتطرفين حتى من الحزب الذي وقّع على أوسلو!

الكلام العاطفي والخطابي في ذكرى أوسلو، والحديث عن جريمة وعن تنازل، غير موضوعي ولا يتفق مع حقيقة التطورات التي حصلت، ولا يستند الى تحليل علمي. ففي سبتمبر 1993 لم تكن المقاومة تزحف وتؤثر، لنقول إن خائنين أو مفرطين تعمدوا إحباطها. فالانتفاضة نفسها تحولت الى فوضى، وانتقلت من طورها الشعبي الى طورها الفصائلي ونشأت ظاهرة العنف الداخلي.

يمكن نقد صيغة أوسلو بمنطق علمي، لكن نقدها بأسلوب التخوين والحديث عن سقوط في المستنقعات، لا يتفق والحقائق. بل يمكن الحديث عن أن التطبيقات الأولى لأوسلو وفرت هامشاً للمقاومة، وكان ياسر عرفات هو المقاوم الأول، الذي دفع حياته على طريق تحقيق حلمه ورؤيته.

لم يكن لدينا شيء، يوم جرى توقيع أوسلو في حديقة البيت الأبيض. أما الحديث عن التنازل عن 78% من أراضي فلسطين التاريخية، فلا يُعد حديثاً سياسياً علمياً، لأن الــ 100% لم تكن في أيدينا، ولأن السياسة تختلف عن الأيديولوجيا، وهي فضاء لممارسة المسؤولية الوطنية إن استطاع المنخرطون في العملية السياسية الاستفادة من هذا الفضاء. ثم إن التحقق الوطني على الأرض، كما رآه أبو عمار، هو ضمانة وجودنا على الأرض، للذهاب الى مباراة تاريخية ممتدة، تقطع في الاتجاه المعاكس، للشوط  الطويل الذي قطعته الحركة الصهيونية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فقد اعتمدت الحركة الصهيونية أسلوب التدرج ومراكمة حقائق وجودها على الأرض الفلسطينية، وهذا ما كان أبو عمار يحلم به. ثم إن مرجعيات التسوية التي يرتضيها اليوم معارضو الأمس، لا زالت كما هي ويتقبلها الذين كانوا يرفضونها، وهذا هو مكمن الخلل في نصوص الطرح غير الموضوعي، بلغة الايديولوجيا!

مشكلة أوسلو، بخلاف اسبابها الأمريكية، تكمن في صيغتها أولاً، وفي مسؤولية الحكم الفلسطيني والمعارضة الفلسطينية عن الفشل في تحقيق نوع من التوافق على استراتيجية عمل وطني واحدة، ومسؤولية السلطة، بعد ياسر عرفات، مع مسؤولية حماس بعد انقلابها في غزة، عن فهم ضرورات البعد الاجتماعي للسياسة ولممارسة السلطة. وما غير ذلك إلا نوعاً من الثرثرة التي تحبط محاولة أخذ العبرة، وتتجاهل اللحظة التاريخية التي وُقّعت فيها أوسلو، وتتغاضى عن حقائقها. فأوسلو لم تكن أصل الشر، ولا هي صاحبته الحصرية، على الرغم من رفض كاتب هذه السطور لصيغتها منذ اللحظة الأولى. فلا جدوى من مباريات الكلام والتهاجي، وتخليق الانطباعات، وكأننا في منافسة على صعيد العلاقات العامة!