بين الإعلام والثقافة أواصر قرابة واختلاط جينات تجعل من علاقتهما عضوية جدلية وتجعل من الفصل بينهما خطيئة تضاهي قطع صلة الرحم .
في اعلامنا العربي تبدو البرامج الثقافية خيارا ثالثا واحيانا اخيرا . نبدو شعوبا غارقة في همّها السياسي . تحتل السياسة نصيب الأسد على شاشاتنا فنهرب من منغّصاتها الى مساحة النسيان في البرامج الفنية ذات الطابع الترفيهي كالافلام والمسلسلات والمنوعات الفنية والرياضة .
وبين جدّ السياسة وهزل الترفيه تمتلأ المساحة وتهمّش الثقافة .
يتساءل أغلبنا، لمن البرامج الثقافية ونحن شعوب لا تقرأ ؟
لم نعكس يوما منظارنا لنتساءل عن دور ( الميديا ) في تحفيز القراءة وفتح شهية الكتاب على مائدة اهتماماتنا...
لم نتساءل يوما لماذا لا تخضع برامجنا الثقافية المرئية لابداعات إخراجية تكسر نمطيتها ورتابتها فبقيت في معظمها ودون غيرها أقرب الى الاذاعة المصورة . ولم توفر لها نصف امكانيات وعبقريات وميزانيات البرامج الترفيهية الفنية. أم هل كان من الحكمة ان تغدق حكوماتنا العربية بسخاء على أمنها العسكري وأمنها الداخلي بينما لا تكترث بالقدر نفسه لأمنها الثقافي المهدد بخطر الاستيلاب المتربص بهويتنا الحضارية، ولا بجيوش العولمة المدججة بأعتى أسلحة الغزو الفكري وأمكر أدوات غسل الأدمغة ؟
أمن ثقافي يحتاج الى اعلام ثقافي قوي وممنهج ومنفتح يقيه ويقينا ريح الغزو وأسباب الضياع، كما ويحمينا في الوقت نفسه من أن نتقوقع في زاوية المستهلكين للثقافة بدلا من منتجين لها. فبقي إعلامنا الثقافي في أحسن أحواله مجرد ساعي بريد كسول للثقافة، بل لا يتوانى أحيانا في اللجوء الى التسطيح والاستعانة بالتبسيط لتسهيل وظيفته في إيصالها دون ان يضطلع بمسؤوليته الأسمى، الا وهي تربية ذائقة ثقافية حقيقية للوصول بالمشاهد العادي الى مستوى مشرّف من النضج الثقافي.بدلا من استسهال تقريب الثقافة للمجتمع عبر تسطيحها أو تقليصها.
أتساءل شخصيا لماذا كان يعاد بث الحلقة الواحدة من برنامج "بيبليوتيك ميديسيس" الذي استمر على القناة الفرنسية ستة عشر عاما (2001 -2017 ) تسع مرات على مدار الاسبوع، في حين لا تحظى أبرز برامجنا الثقافية العربية على قلتها بأكثر من إعادتين في أحسن الاحوال . وأربط بين ذلك وبين صورة المواطن الأوروبي الذي يطالع الكتب حتى وهو في القطارات ومحطات {الميترو } .ويطرح السؤال نفسه ، هل اذا كان لإعلامهم المكتظ بشتى برامج الثقافة نصيب ودور في التحفيز والمحافظة على هذه العادة، في حين تصرخ الثقافة على شاشاتنا العربية : " وامُنصفاه " . شاشات احتكرها السياسيون، والرياضيون ، والحسنوات من ذوات الغناء بالجسد أكثر من الصوت ؟
ليس الحال في الإعلام المكتوب وللأسف بأكثر ايجابية ما دامت الصفحات الثقافية لا تحظى بنصف كمية ورق الصفحة الرياضية ولا بعشر عدد قرائها
يشاكسنا السؤال :
هل لأن { مِسّي } تفوّق حبا وحظوة في وعينا وأولوياتنا على المفكر والشاعر والأديب ، أم لأن ميزانية { الفيفا } تفوق ميزانية كل وزارات الثقافة العربية مجتمعة، لم يترك تاريخ كرة القدم القصير مكانا ورقيا يليق بحجم ذوي الاقلام والابداع وصانعي الوعي ؟
أم لأن السياسي غيّب المثقف عن السلطة الرابعة ضمن منظومة سياسية عربية سادت عقودا، تعاملت مع المثقفين كخطر يهدد شرعيتها. فوزعتهم بين تابعين، أو سجناء كلمة ، أو رهبان صوامع حيث الثقافة ترف وخلوة وانعزال. فعاش الإعلام العربي ناطقا باسم الساسة وأسياد القرار، وتوارى أسياد الكلمة يلتقطون بعض الحضور على هوامشه؟
لا يزال المثقف العربي يستجدي حضوره الكافي والطاغي على مساحة الميديا العربية المرئية. حضور يليق بحجم قدرته على التأثير والتغيير . لا يزال يأمل ان يمنحه الاعلام من مساحة الحضور ما يليق بنقلة نوعية في كم ّ ونوع إعلامنا الثقافي ، حارس هويتنا ، وسادن عقولنا ، وسدّ نا العالي في وجه طوفان الغزو الثقافي ، وحامي حمانا من احتلال العقل المبرمج ومن وحش العولمة المفترس علّنا نكون أحد أطرافها بدلا من مستهلكين مكتفين بفتات موائد طُبخت على مقاس تبعيّتنا. ولأننا أمة لا تقرأ فإنه لمن الضرورة بمكان ان يحمل إعلامنا على عاتقه العبء الأكبر لايصال المعرفة، والترغيب في القراءة وإعادة حضرة الكتاب (ورقيا كان او الكترونيا ) لأمة "اقرأ".