حماس في مؤتمر الثلاثين

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

اليوم، في سبتمبر 2018 يلامس خالد مشعل، جوهر الفكرة التي لطالما كتبنا عنها في اللحظات العسيرة، وبخاصة في أوقات الصراع على السلطة، من منطلق كونها مغنماً لا مغرماً!

أخونا مشعل يقول للمشاركين في مؤتمر "حماس بعد ثلاثين عاماً" أن من الأهمية بمكان، إعادة تعريف المشروع الوطني وإعادة بنائه. وكنا، قبل أكثر من عشرين سنة، قد كتبنا مراراً، أن واجبنا الأول، هو بناء استراتيجية العمل الوطني، الواحدة والملزمة، لمقابلة استراتيجية العدو العدوانية الواحدة. فمن الجنون، أن نقابل هذه الأخيرة، بالعديد من الاستراتيجيات الفصائلية المتنافرة، التي تفسد بعضها بعضاً،  والتي شغلتنا كل الوقت في التهاجي بيننا. والاستراتيجيات الرشيدة والمسؤولة، لا تُبنى على هرطقات، ولا على نكران معطيات الواقع، ولا على عدم الاعتراف بالخطأ. فالمُعطى القوي على الأرض، يتطلب مواجهته وليس هجاءه، ولن تكون المواجهة الفعالة، الا باعتماد سياسات الممكن، لا خطابات المطالبة بالمستحيل في هذه الآونة، والاكتفاء بالبلاغة. ذلك لأن الهوة واسعة بين ما نطلبه على قاعدة الأيديولوجيا، وما يبدو قويا ومنطقياً في مطالبتنا بالممكن الذي تؤيدنا فيه جميع الأمم. ومعلوم أن النضال الفلسطيني، ذو مدى تاريخي وذو طابع تراكمي، ونقطة البداية هي قناعتنا بأننا لا زلنا في الطور الأول من محاولة تثبيت وجودنا على الأرض. ومن يضبط إحداثياته على غير هذه القناعة، يضر ولا ينفع، وهذه هي النتائج ماثلة أمامنا!

نسجل للأخ د. أحمد يوسف، أنه المبادر الأول لممارسة النقد الذاتي، وربما يكون الرجل دفع ثمناً لكي يعبر عن هذه الوجهة. آخرون كثر، لم يُظهروا استعداداً لأن يعترفوا بأي خطأ، بينما كل بني آدم خطّاء، ثم إن البشر والحجر ينطقان بأن هناك أخطاء جسيمة وقعت فيها حماس، وأفشلت حكمها وجلبت عليها الضائقة التي أصبحت فيها. وكان لبعض الثوابت الخاطئة، أسبابها في الوصول الى المأزق. فعلى سبيل المثال، روّجت المرجعيات الحمساوية بين الشباب، فكرة أن العلمانية قرين الإلحاد ومجافاة الدين، وليس قرينة الدولة وشروط قيامها وقرينة السياسة والحكم، باعتبارهما شأنين علمانيين لا علاقة لهما بالإيمان ولا بالكفر والإلحاد. وعندما اختطفت حماس الحكم في غزة، وجدت نفسها تأخذ مضطرة بالمنطق العلماني، الذي يفصل على سبيل المثال، بين جباية الضرائب، والسلع سواء كانت حلالاً أم حراماً في المراجع الفقهية. ذلك ناهيك عن الفصل بين تعريف الزهد والرفق والعدالة والتحسب الواجب عند النظر في مصالح الناس من جهة، والسياسات المعتمدة والممارسات اليومية في الحكم. لذا فإن حماس وضعت نفسها أمام التيار الشعبي العريض في غزة، باعتبارها ــ في أقل التعبيرات ــ لا تأخذ بنمط الحكم الزاهد والعادل والإسلامي والمترفق بالناس والمراعي لمصالحهم، والذي يفكر ألف مرة قبل أن يعرضهم للأذى والحصار والبؤس!

د. أحمد يوسف في نقده، يقول مفسراً رسالة خالد مشعل الى مؤتمر حماس، إن الحركة، بعد مؤتمرها وانتخاباتها التنظيمية في يونيو 2017 "التي شابها الكثير من الملاحظات السلبية، فيما يتعلق بالمنظومة القيمية التي تربينا عليها منذ قرابة نصف القرن من العمل الإسلامي؛ تراجعت حظوظ طهارتها الحركية، وتسببت تلك الممارسات الخاطئة بتغييب مكانة بعض الوجوه التاريخية، من حيث القدرة والتأثير الحركي والسياسي، وظهرت وجوه أخرى!!" ويستطرد قائلاً:  سنترك للمستقبل فرصة تقييمها والحكم عليها، وإن كان المشهد الميداني لا يطرح ما يبشرنا بالاطمئنان، لأن من هم في صدارة قمة الهرم التنظيمي لا يمتلكون - بأيديهم وحناجرهم - طوق الخلاص، حيث إن أكثرهم - بصراحة - يفتقدون للمكانة القيادية، ولا يرتقون لمفهوم "وجئتَ على قَدرٍ يا موسى"، حيث تتحقق الزعامة والمثال، بكل ما يعنيه ذلك من مكانة الأسوة والقدوة الحسنة"!

ليس بعد هذا الكلام كلام. والرجل ليس طارئاً ولا عابر سبيل، وإنما هو أحد ثلاثة ألمعيين من شباب "الإخوان" الفلسطينيين، الذين حرصت قيادة الشيخ الشهيد أحمد ياسين، على أن يتلقوا تعليماً عالياً في الولايات المتحدة (هو وموسى أبو مرزوق والشهيد إسماعيل أبو شنب) لذا فإن الرجل يعرف ماذا يقول، بل إنه، وبعد رسالة مشعل الى المؤتمر، يعرب عن تأييده للخطوط العريضة التي طرحها الرئيس السابق للمكتب السياسي. تلك الخطوط بدأت بالتأكيد على وجوب استمرار المقاومة موضوعياً ومن حيث المبدأ، لكي يصل الى رابعا وخامساً وهما: تجديد الفكر السياسي الفلسطيني ليواكب تطورات الصراع ومستجداته، ويحافظ على الأصول والثوابت ويشق الطريق إلى الأمام. والجرأة في التغيير والتجديد داخل الفصائل والقوى الفلسطينية، وتجديد دور شبابها، وتعزيز روح الديمقراطية الحقيقية داخلها، تخلصاً من خطر الشيخوخة!

قبل أن تصل القيادات الحمساوية المخضرمة، الى هذه الخلاصة، بعد تجاربها المريرة، وقبل أن تتبين لها أهمية النقد والمراجعة، لم تكن السياسة تلقى لديها اهتماماً. كان السائد كله كلام يتشبه بالسياسة ولا يشبهها، وانما هو محض تخريجات أيديولوجية محمولة بأجنحة الخطابة المدوية، علماً بأن الرسول عليه السلام، اضطر للأخذ بناصية السياسة، في الحياة الداخلية وفي الصلح. فلا أحد، في هذا العالم، يحكم بالأيدولوجيا ويطابق بنها وبين فحوى الحكم وتوجهاته، لأن الآخرين موجودون والمعطيات قائمة.

لقد تحملنا نحن في فتح، الكثير من ظلم التخوين والأذى والافتئات، لأننا قلنا ما تقوله حماس اليوم، بعد أن ضيّعنا، نحن وهي، ربع القرن في الترهات!