من فصل الخطاب

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

لسنا مع تكثيف الهجوم على شرعية عباس ومشروعيته، في أجواء الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأسباب ذلك كثيرة ومتعددة. أولها أن تكثيفاً كهذا، يمنح خطاب عباس من على منبر الجمعية العامة، أهمية لا تتوافر شروطها الموضوعية. فلسنا على موعد الحسم، ولن يحسم الخطاب أي شيء على أي صعيد. ثم إن مثل هذا التكثيف للهجوم، يستحث ردود أفعال مضادة، لكي ندخل في همروجة، ونغرق جميعاً، ولأيام، في الوهم الساذج، وكأننا بصدد علامة فارقة في التاريخ، أو نوعٍ من التحول، الى الأمام أو الإرتداد الى الوراء، بينما نحن، في الحقيقة، أعجز من أن نسجل أية فارقة تاريخية، من نوع التحولات، ومحتارون كيف نتصرف في شأننا الداخلي، ولا نعرف هل نتحرك الى أمام أو وراء؟!

 وفي حال تعظيم رحلة عباس، نصبح كمن يتوسلون إشباعاً نفسياً بديلاً، لا يتوخاه إلا المأزومين. من جهة أخرى، إن الهجوم في هذا الوقت، بمنطق انحراف منهجية الحكم الفلسطيني وافتقاره للحد الأدنى من المؤسسات؛ من شأنه التشويش على رجل يقرأ نصاً مكتوباً، ويطرح مسألة عامة تتعلق بالقضية. والرجل في الخطابات المكتوبة، يلتزم محددات التسوية التي تتقبلها الأغلبية وترجوها، ويرفضها العدو ويحبطها. أما القضايا الداخلية، التي نختلف فيها مع عباس، فإن لها مناخات أخرى، لن يتطرق اليها خطابه المكتوب. فالاختلاف هو تحديداً مع عباس الذي يحكم، وعباس الذي يتخذ قرارات فردية من شأنها الإضرار بالمجتمع الفلسطيني وبحركته الوطنية. ثم إن عباس الذي  يتحدث بتلقائيته، يختلف عن عباس الذي يقرأ خطاباً يكتبه آخرون،  من على منبر منظمة دولية تعترف به رئيساً للشعب الفلسطيني، وتنتظر منه كلمة شعبه، ولا تنتظر منه هراءً يمثل نوازعه الشخصية. وبهذه الصفة لا يستطيع أحدٌ سواه، الوصول الى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكي يعيد طرح الرواية الفلسطينية، مقابل الرواية الإسرائيلية!

لو إن صوتاً من تلك التي تهاجم عباس في تلك المناسبة وعلى صعيدها، يصل الى رئاسة الجمعية العامة، فإن جوابها سيكون: إن هذه مشكلتكم الداخلية، ونحن غير ذي صلة، لأن موضوعنا هو قضايا الأمم والنزاعات بينها، وليس النزاعات في داخلها. بالتالي ليس لدينا ما نقوله لكم سوى أن تتدبروا أموركم، فالتاريخ يزخر بالحكايات المروية عن مآثر الأمم، التي انتزعت حقها في الظفر بالحكم الرشيد!

 غير أن المفارقة الطريفة على هذا الصعيد، تتعلق بفوهات مدافع الكلام الحمساوي ضد عباس. فليت حماس استمعت الى نصائح الكثيرين، وتمكنت على الصعيد الداخلي من طرح بديلها القويم الذي يوازي بين السياسة والحق في المقاومة وحق الشعب الفلسطيني في الحريات السياسية والحياة الكريمة التي تتساوى فيها المواطنة. ثم إنها للأسف، في التقييم العام، لا تعرف ماذا تريد على صعيد الموضوع الذي يطرحه عباس في خطابه، كما لا تعرف كيف تخرج هي وعباس، من المأزق الذي أوقعا شعبنا فيه. فلا يُجدي الخطاب ولا ذم الخطاب وصاحبه يُجدي!

 بعد أكثر من عقد من الخضيض المرير في غزة، والتجربة والخطأ، والدماء والدمار، لم تتواضع حماس، لكي تحابي السياسة من حيث كونها، في أحد تفسيراتها،  فن التقدم الى أقرب نقطة من الحقوق الوطنية، في الحياة أولاً، ثم في معاني الحياة الموصولة بالحقوق كلها. فليس شطط عباس، في القرارات والملافظ والمناورات الصغيرة، أكثر إيذاءً للمجتمع الفلسطيني من شطط حماس في الحكم، والتغاضي عن الحقائق، وفي خيارات الحرب والهدنة والقبضة الأمنية، وغموض المقاصد وغرابة التقاطعات!

لا نختلف على أن غزوة عباس الى نيويورك، لا تشبه من قريب أو بعيد غزوة مؤتة ومعركتها المريرة والمستحيلة في البلقاء. فلا هو زيد بن حارثة ولا معه عبد الله بن رواحة وجعفر، ولا هو طبعاً في حجم ياسر عرفات. إن الأمر لا يعدو كونه خطاباً مسرحياً، مثل كل خطابات ممثلي الأمم الأخرى التي لا تحسم شيئاً. لقد شعرنا بالفخر، في خريف العام 1974 عندما اعتلى ياسر عرفات منبر الجمعية العامة في الدورة التاسعة والعشرين، لأن الحسم الذي تحقق لنا يومها، هو اعتراف الأمم بحقنا في التواجد  كحركة تحرر، في قلب العلاقات الدولية. أما اليوم فإننا نعتاش سياسياً على بقايا ذلك الإنجاز، وعندما قرر الأمريكيون في خريف العام  1988 حرمان الزعيم ياسر عرفات من اعتلاء المنبر مرة أخرى، كان للرجل من القوة الأدبية على الصعيد الدولي، ما أقنع الأمم المتحدة، أن تدعو الى دورة انعقاد خاص بشأن فلسطين، في الشهر الأخير من ذلك العام، في جنيف، لكي يستمع اليه برلمان الشعوب. اليوم شبعت الأمم استماعاً للخطابات، وباتت كل الأمور معلومة، ولم يعد أمامنا إلا أن نُصلح عرباتنا لكي لا تسخر الطرقات منا، وهذا هو فصل الخطاب!