الفلسطيني بصفته الغريق الذي لا يخشى البلل

thumbgen (7).jpg
حجم الخط

 

تبدو «صفقة القرن» في تداولها السياسي والإعلامي كحادث فجائعي في دراما رعب لا بد أن يترافق ظهورها المفاجئ موسيقى تصويرية مرعبة. الغالبية الساحقة ممن يتناولون المسألة (موافقين ومعارضين) ينطلقون من التسليم بقدريتها، واعتبارها ستتحقق لا محالة أي أنهم يضعون الفلسطينيين منذ البداية في ممر إجباري لا مكان فيه إلا للموافقة ومن دون تردد.

كثيرون من هؤلاء يحرصون في الوقت ذاته على التهويل بما سيحدث للفلسطينيين لو أنهم رفضوا الصفقة وبعضهم يتبرع برسم سيناريوات لما سيحدث. ذهنية سياسية قدرية تدير الوقائع والأحداث من تسليم مسبق بالعجز يقابله تهويل مطلق بقوة صاحب الصفقة التي لا راد لها من دون إدراك لحقيقة أن لا قوة مطلقة في العالم ولم يعرف تاريخ البشرية منذ وجد قوة بهذه المواصفات التي لا نجد وصفاً يليق بها سوى أنها قوة خرافية قد تتأسس في بعض أفلام الخيال العلمي وحسب، وإن رسخت في أذهان من يؤمنون بها ويروجون لحتميتها.

ليست قرارات ترامب كلية القوة وليس لها أن تقول للصفقة كوني فتكون: تتأسس الدعوة لصفقة القرن على حقيقة الضعف المادي الفلسطيني والعربي (بل حتى الدولي)، ولكنها تنسى في صخب عرضها وما يرافقه من تهويل أن تجيب عن سؤال بالغ الأهمية بل هو في رأيي السؤال الأهم: ماذا سيحدث لشعب وقعت بلاده كلها تحت الاحتلال العسكري الاستيطاني ويجري يومياً تغيير معالمها وتزييف ملامحها؟

هل سيغامر الفلسطينيون برغد العيش وفرص العمل المفتوحة لهم في البلدان العربية أم التعذيب في سفرهم وعودتهم؟

أسئلة نعتقد أنها غابت عن تفكير صاحب الصفقة وتفكير من يستخدمون التهويل لتمريرها وإجبار الفلسطينيين على القبول بها: الفلسطينيون في فلسطين شعباً وقيادة يعيشون تحت الاحتلال المباشر الذي لا تغير حقيقته هياكل وترسيمات إدارية مشروطة وخاضعة. عكس حالة السلطة القائمة اليوم هي حالة الاحتلال الكامل من دون وجود هذه السلطة التي لا تلغي الاحتلال وليس لها القدرة على وقف الاستيطان وسرقة الأرض والتي جاءت وفق اتفاق لم تنفذ منه إسرائيل شيئاً ولم يعد له من وجود إلا في التنسيق الأمني. لا نقلل هنا من مخاطر رفض صفقة القرن يوما ستفعله الإدارة الأميركية ضد الفلسطينيين شعبا وقيادة، ولكننا نرى بموضوعية أهمية التماسك وعدم الوقوع في الهلع والارتباك فلا شيء في حال الفلسطينيين اليوم يستحق الأسف على ضياعه ويجبر أحداً على تقديم تنازل وطني كارثي في سبيل الحفاظ عليه. أعتقد أن لا صفقة يمكنها أن تمر من دون موافقة القيادة الفلسطينية مهما قيل وأشيع عن محاولات ومخططات لاختراع بدائل تمثيلية، وآخرها استدراج حركة حماس للقبول بحل منفرد في قطاع غزة سبق له الفشل والسقوط في زمن دالاس عام 1954، ولا نعتقد أنه يملك اليوم حظوظاً أوفر. هذا لا يعني أن كل شيء سيكون على ما يرام ومن دون معاناة وتضحيات كبرى تبدأ باستعادة الحالة السياسية الفلسطينية حيويتها.

إنه الأمر الأصعب والذي يحتاج إلى العودة للبديهات الوطنية، سواء في ما يتعلق ببرنامج سياسي جامع وتوحيدي أو بتحقيق وجود مؤسساتي يضمن المشاركة الفعلية ويفتح الباب لوجود الكل الفلسطيني من دون إقصاء ومن دون هيمنة أي طرف أو تفرده في القرار. وفي هذا السياق لا بد من تحصين الحالة الوطنية لضمان إحباط أي انزلاق لسلطة الأمر الواقع في غزة في المشروعات التصفوية تحت مسميات التهدئة تحت أية حجج أو ذرائع تضليلية.

عن الحياة اللندنية