من بين نقاط السجال بين فتح العباسية وحماس، ما هو طريف وينتمي الى كوميديا المأساة التي يلعبها على المسرح ممثلون معتوهون. الناطقون باسم الأولى وقيادتها، يجزمون أن حماس تفضل أن تذهب الى مصالحة مع إسرائيل، على الذهاب الى مصالحة مع فتح أو مصالحة وطنية، وأن حماس هذه، في ضلالها وعنادها، "تتساوق" مع "صفقة العصر". والناطقون باسم حماس، يؤكدون أن الأولى تتقبل إسرائيل وتفضل الوئام معها واستمرار "التنسيق" الأمني، على حماس المجاهدة، والصلح معها وهذا هو "التساوق" مع "صفقة القرن". الاختلاف الطفيف بين الصيغتين، يتعلق بصفة "الصفقة" وحسب. الأولون ينسبونها إلى العصر، والأخيرون يحافظون على صفتها الأصلية المزعومة، أي بكونها منسوبة الى القرن!
الفلسطينيون من جانبهم، باتوا على قناعة بأن الطرفين يتساوقان مع الشيطان، وأنهما شريكتان في صنع عاهة القرن والعصر. وربما تختزل شراكتهما في هذا التساوق، صورة منشورة، لعزام الأحمد و"النونو" وهما يتضاحكان متشابكيْ الأيدي. ذلك لأن الشيطان وحده، ملك الغواية، هو الذي يصنع بينهما الدُعابة والصبر على المتاهة والتشابك في حوارات "عميقة وجادة"!
ربما يكون فعل "التساوق" في عقل الأذكياء الفلسطنيين المحزونين؛ متنوع الدلالات، كما هو في قاموس المعاني، وأولها في الترتيب يتعلق بتساوق الماشية وتتابعها، كل "رأس" يقتفي أثر الآخر. أما أخطر المعاني، فهو التساير والتناسق، عندما يتساوق اللون مع محيطه. لكن أبعدها، هو المعنى الذي يجعل التساوق تفاخراً بالصنائع والأعمال الجليلة، والتنافس بشرف وروح طيبة في السوق.
المصيبة أن الطرفين المتساوقيْن، يجعلان إسرائيل "سِدْرة المنتهى"، وهذه شجرة باسقة، في الجنة، يفترضها النص الديني، جذورها في السماء السادسة، وأغصانها تصل الى السماء السابعة، ويرى المؤمنون عندها نوراً عظيماً، يبهر الأبصار!
ذلك كله، حتى الآن، على صعيد الألفاظ والمعاني. أما على صعيد السياسة ومحنة الوطن، فالوقائع تدل على أن إسرائيل هي مُتكأ كل طرف في نزاعه مع الآخر. الأول يتمسك بدوره ويرى نفسه الأعقل والأشد التزاماً بقواعد حُسن السير والسلوك، والثاني يحاول، باللغة السياسية والتدابير على الأرض، وفي علاقته مع المجتمع الفلسطيني؛ البرهنة على جدراته في العمل العام وعلى تأهله للشراكة في الإقليم، بعد دحض الفكرة القديمة عنه. ومن نافل القول، أن إسرائيل لم تعد في حاجة الى عملية جوسسة استراتيجية، إذ باتت تكتفي بالتكتيكات والتفصيلات، لأخذ العلم باتجاهات الكلام، بعد أن أخذت كل العلم عن اتجاهات الأفعال. وفي وسعنا أن نتذكر، واقعة ضبط الجاسوس المسؤول في سفارتنا في تونس، الذي لم يزرع أجهزة التنصت في مكتب متشدد فلسطيني على صعيد الكلام، وإنما في كرسي مكتب الرجل الذي اختار وجهته السلمية وغرامه الأخير، حتى ولو كانت التسوية التي يتوخاها، قفزة في الهواء. كان العدو متأكداً من وجهته، لكنه يريد التحقق من وُجهة ألفاظه التلقائية، لأن الألفاظ تصنع أدق الانطباعات. لذا تراه في رطانته التلقائية، يختلف عن سردياته في خطابات الفُصحى المقروءة. في الأولى، يتبدى الوهن وتُفصح الدونية عن نفسها، لا سيما في القول إننا تحت حذاء إسرائيل، ونلتزم متطلباتها الأمنية من تحت هذا الحذاء، وفي الثانية، الفُصحى المقروءة، إن إسرائيل قوة غاشمة نهيب بالعالم أن يساعدنا على رفع يدها عنا، وإن لم ترتفع يدها سيكون لنا حيالها شأن آخر. كذلك تكون غزة متروكة من وجه فخامة الرئيس، في محاكاة للحُكمٍ البات، الذي نطقت به توراة الحاخامات:"وستكونين يا غزة متروكة من وجه الرب". أما في النصوص الفصيحة، فإن غزة جزءٌ من الوطن، وأهلها جزءٌ من الشعب، وواجب انصافها، جزءٌ من الواجب الوطني!
الطرف الثاني، الذي يُباري الأول في الهجاء، يرى غزة غزتين، واحدة للخطابة عن عنفوان المقاومة، وأخرى في التدابير اليومية، التي من شأنها جعل غزة فاقدة للمناعة وللقدرة على مقاومة عارض الإنفلونزا وعوارض الإحباط، وغلاظة شرطي المرور، وجابي الرسوم والضرائب وأثمان التنسيقات، وغوايات الانتحار والهجرة والموت!
أرجوحة الشيطان هذه، تتراقص على آلام الشعب الفلسطيني الذي عاف الطرفين!
