إعدام ميت

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

هذه ليست قصة الفيلم العربي الشهير «إعدام ميت»، للفنان الراحل نور الشريف؛ هذه قصة حقيقية جرت في كانون الثاني، 2012، في مدينة النجف جنوب العراق، حيث أقيمت محكمة كاملة الأركان، كلّفت خزينة الدولة العراقية 56 مليون دينار.. كان المتهم الأول فيها الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (ت 743 م)، والتهمة قتل «زيد بن علي بن الحسين»؛ جرت وقائع المحاكمة في مقر نقابة المحامين العراقيين، أمام جمهور عريض، وحضرها قضاة المحاكم العراقية الرسمية، ومحامون عن المتهمين عينتهم المحكمة، بعد أن طلبت من نقابة المحامين فرع الأنبار انتداب محامين للدفاع عن المتهم، إلا أن محامي الأنبار رفضوا الاستجابة، ربما خوفا من ردة الفعل الشعبية الغاضبة، في حال تجرأ أحد على الدفاع عن المتهم، أو لقناعتهم أنها محكمة مهزلة. 
المهم، بعد أن انتهت مرافعات الدفاع، تمَّ الحُكم على الخليفة الأموي، بالإعدام شنقا حتى الموت؛ أي بعد 1313 عاما من ارتكاب جريمته المزعومة. 
وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الحكم بالإعدام على ميت؛ ففي العام 897م تمت محاكمة الهيكل العظمي للبابا فورموسوس، في روما، وحينها قاموا بنبش قبر البابا السابق، واستخراج ما تبقى من هيكله العظمي، ثم أجلسوه على كرسي، وألبسوه الزي البابوي، ليبدأ البابا «ستيفن السادس» بتوجيه الاتهامات للميت، والتهمة إثارة الجدل ضد البابوية. ثم أخذ يكيل الشتائم ويصب اللعنات عليه.. ولكن، وحتى تكون المحاكمة عادلة، تم السماح للجثة بالدفاع عن نفسها، وذلك من خلال شاب من شماسي الكنيسة، الذي عجز عن الكلام.. وفي نهاية المحكمة تم تجريد الهيكل العظمي من الزيّ البابوي، وإبطال كل القرارات التي كان قد اتخذها فورموسوس في حياته، كما تم قطع ثلاث من أصابعه، ثم حُكم عليه بالإعدام، وأمرت المحكمة بدفنه بقطعة أرضٍ مجهولة، ويُقال إن قبره تم نبشه مرةً ثانية، وقذفت عظامه في النهر. 
تبدو مثل هذه القصص أقرب للخيال، بيد أنها حصلت بالفعل؛ وإذا كانت محاكمة جثة البابا فورموسوس قد جرت في القرن التاسع الميلادي، أي في عصور الظلام، وأصبحت مجرد ذكرى بائسة؛ فإن محاكمة هشام بن عبد الملك قد تمت قبل سنوات قليلة، أي في القرن الحادي والعشرين، في عصر الإنترنت.
وإمعانا في المهزلة، وتماشيا مع مسلسل الانحطاط؛ تكرر المشهد تحت قبة البرلمان العراقي قبل شهر واحد.. في جلسة البرلمان يوم (16/9/2018) ببغداد، والتي كان على جدول أعمالها قمع الخليفة العباسي هارون الرشيد، للإمام موسى بن جعفر الكاظم، وكليهما مات في القرن الثاني الهجري. يعني قبل نحو 1200 عام.
في تلك الجلسة، تقدم أكبر الأعضاء سناً، والمنتخب عن التَّيار المدني، ونطق بعبارة «بغداد الرَّشيد والمأمون»، على الفور قفز النائب عن حزب «الفضيلة الإسلامي» محتجا وغاضبا على وسم بغداد بهذين الاسمين، الذي رأى فيهما لعنة ووصمة عار في تاريخ العراق.. وثار هرج ومرج في قاعة البرلمان، وتقاتل الطرفان، كل منهم يدافع عن رأيه في الرشيد، أو في الكاظم. 
وفي تسجيل مصور، ظهر فيه «معمم شيعي» وهو يقرّع العراقيين على خروجهم في تظاهرات شعبية تحتج على تردي الأوضاع الأمنية، وتدهور الخدمات، وانتشار الفقر والبطالة.. ويتهمهم بخيانة دم الحسين، لأنهم لم يخرجوا في تظاهرة ضد مقتل الإمام الكاظم، ولم يخرجوا في تظاهرة ضد الخلفاء الأمويين والعباسيين.. وأنّ نصرة آل البيت أهم وأولى من المطالبة بالماء والكهرباء. 
وحتى لا يظن أحدكم أن مظاهر التخلف والغباء هي فقط عند بعض رموز الشيعة، ابحث في الإنترنت، وستجد عشرات الأفلام التي تظهر «علماء»، ورجال دين من «السـنّة»، وهم يقارعون الشيعة، ويروجون لخرافات وأساطير من كتب التاريخ الصفراء، أو يدافعون عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والسيدة عائشة.. حيث باتت هذه القضية هي قضية المسلمين المركزية.
وكما كتب صديقي العراقي «رشيد الخيون»: «مرت البشرية بعصور تعاقبت بين نور وظلام، وظلم وعدل، فإذا أصبحت السياسة محاكمة للتاريخ، على طريقة ما حدث في البرلمان العراقي مؤخراً، فلتجرد السُّيوف وتوجه الرِّماح وتُشعل النِّيران.. الشِّيعة يرفعون الثأر مِن الأمويين والعباسيين، والسُّنَّة ينادون بالثأر مِن الفاطميين والصَّفويين.. إنها حروب بالنيابة عن الأموات».
تعالوا نعش في كهوف التاريخ، ولتأخذ كل طائفة حصتها من الثأر.. لننتقم من مقتل الحسين، ولنصبّ اللعنات على يزيد.. ولنثأر للسيدة عائشة، ولننتصر للصدّيق، ولنعد تنصيب الإمام علي خليفةً أول، ولنُخرِج الأشتر من جوف الحمار الذي دفن فيه، لنعيد دفنه بطريقة لائقة.. ولماذا نحاكم هشام وحده، ونترك معاوية، والسفاح، والأمين!!
لنهدم تمثال المنصور، لأنه نكّل بآل البيت، ولنحطّم تمثال المعري، لأنه كان زنديقا، ولنغلق شارع أبو نواس، لأنه روج للخمر، أو لنحرق بغداد كلها، لأنها وصلت أوج مجدها في زمن الرَّشيد والمأمون!.
ولنترك هذا الغرب (الكافر) متلهيا ومشغولا باختراعاته واكتشافاته.. أما نحن، فأمامنا معارك أهم، ومناظرات فكرية أولى من هموم عالم ما بعد الحداثة.. 
منذ ألف سنة وأزيد، وأحوالنا تسير من سيئ إلى أسوأ، مسلسل من التدهور والسقوط، وكلما وصلنا القاع، نكتشف قيعانا أعمق، فنهبط إليها فرحين!! 
ربما يظن البعض أن القيادات السياسية، والنواب، وأصحاب العمائم، هم وحدهم المسؤولون عن تخلفنا وضياعنا، حتى صرنا أضحوكة العالم.. وهذا ليس صحيحا، هذا تهرب من المسؤولية، الذي انتخب هؤلاء النواب، والذي صفّق لهؤلاء القضاة، والذي يجلس في الجامع، يستمع للخطيب وهو يلعن النصارى واليهود والشيعة.. والذي يفزع كمن قرصه عقرب، إذا سمع كلمة «شيعي»، أو ينتفض كمن رأى ثعبانا إذا سمع كلمة «سُـنّي».. والذي يصدّق فتاوى إرضاع الكبير، وتحريم خروج المرأة من بيتها ووو.. هو المواطن العادي. 
الذي يحرض على الطائفية هو شخص واحد، لكن من يتبعه كالقطيع ألوف مؤلفة. 
في زمن «الاستبداد الصدامي» كان «شارع الرشيد» أهم وأجمل شارع في بغداد، كان تحفة فنية تسر الناظرين، اليوم، في زمن العمائم السود والبيض، تحول إلى كومة نفايات ووكر لعصابات المخدرات، ربما لأن اسمه شارع الرشيد.