مأزق "أخيلوس"

134331537454825.jpg
حجم الخط

 

نقلاً عن الأساطير الإغريقية، استخدم الشعراء والساسة والأدباء مصطلح "كعب أخْيْل" في إشارة الى حكاية "أخيلوس" الصغير، الذي التزمت أمه وصايا الاسطورة، وقامت بتغطيسه في نهر "ستيكس" فأمسكت به من كعبِه ودسته في الماء، لكي تمنحه "الآلهة" قوة الامتناع عن القهر والموت. غير أن مقتل "أخيل" في خاتمة الحكاية، كان بسهم في كعبه، الذي لم يدركه الماء!

بات صاحب الصاروخ يشبه "أخيلوس"، يتحسس قوته بصاروخه، وفي الوقت نفسه، يخشى الإصابة في موضع الانكشاف، ومن موضع الصاروخ.

كنا، بعد اندلاع "انتفاضة الأقصى" نحذر من لا جدوى الصواريخ ونكتب رأينا، وإن ظل رأينا دائماً،  أن الرد على قصف العدو، بقصف مضاد، واجبٌ ميداني ووطني. لكن المبادأة بالصاروخ، تجر علينا نيراناً جوابية إغراقية، تكون خسائرنا منها كبيرة، لا تُقارن بخسائر المحتلين، إن كانت لديهم خسائر. أيامها، ركب إخواننا في حماس رؤوسهم، واستهجنوا راينا، بل وصل الأمر الى حد أن يطلب أحد المعلمين، من إبنة كاتب هذه السطور، أن تقف أمام زميلاتها في الصف المدرسي، لكي يقول لها، بمنطق التخرّص السمج والإتهامي: أنت إبنة المعارض لإطلاق صواريخ المقاومة؟!

اليوم، يتحفنا د. محمود الزهار بتعليق على إطلاق صاروخ ذي طاقة دفع، أوصلته الى بئر السبع. بدا الرجل حانقاً، ويتهم العدو بإطلاق الصاروخ على نفسه، عن طريق عملاء، لإيذاء المقاومة. وفي الاحتمال الثاني، قال ما معناه: ربما يكون مطلقو الصاروخ، من أوساط السلطة التي تجوّع شعبها!

معنى ذلك، أن الصاروخ بات معطوفاً على أحد طرفين، إما السلطة التي تتقصد حماس وتجوّع شعبها، أو العدو نفسه الذي يتقصد الشعب الفلسطيني ويقتله. وفي الحقيقة، إن مثل هذا المنطق لم يخطر في بالنا مرة واحدة. فمثلما كان الزهار، يباهي بالصواريخ قبل خمسة عشر عاماً، فإن هناك من يراها اليوم وسيلة مقاومة تشجع على المبادرة الى الهجوم دون أن تحسب ما لديها من إمكانيات الدفاع. ولأن الحوار غائب، وأمنية جمع الأطراف كلها لكي تحسب وتضرب وتناقش بعضها بعضاً، شبه مستحيلة؛ فإن الوضع سيظل على حاله، وهذه إحدى المصائب التي ابتُلي بها الشعب الفلسطيني.

ينكشف الضعف، بإطلاق الصاروخ، في ناظر الزهار، مثلما انكسف كعب "أخيلوس" في الأسطورة، وتتبدى القوة من خلال إطلاقه في ناظر آخرين. ولا حاجة للمعاينة ولا الى حسبة الربح والخسارة، لأن الربح الذي يتوهمه مطلقو الصاروخ اليوم، هو نفسه الربح الذي كان يتوهمه الزهار بالأمس. لقد أصبح حالنا، الذي ليس أجدر ولا أقوى منه ولا أكثر عنفواناً في المنازلات، وليس أسهل من قتله بسهم في كعبه. لم يعد لنا إلا أن نعود الى تغطيس أنفسنا في نهر "ستيكس" من الرأس حتى أخمص القدمين، لكي تحمينا "الآلهة" بقوة الامتناع عن الموت. ولعل هذا ه ما يريده د. الزهار لنفسه الآن، بينما نحن نريد ذلك له ولجميع أنفسنا، لكي نبقى على قيد الحياة ونتكاثر، ونظل نحمل قضيتنا مشعلاً يُضيىء دياجير الظلام ويوقظ الضمائر.

ليس أقسى من الذي مضى . ويدعونا كل ذلك الذي مضى، لأن نكف عن السجال، ونجمع أشتاتنا، لكي ينقطع سياق الثرثرات ويبدأ سياق الأفكار التي تتبعها خطوات في اتجاه الحد الأدنى من الوئام. مسيرات العودة نفسها، باتت تُثير سجالاً،. ففي صبحية كل جمعة، يعلو ضجيج الثرثرة بأصوات من يؤيدون ومن يعارضون، وفي المساء، تتوقف الثرثرة وتبدأ التلاوة والجنازة. ويكون الترحم على الشهداء!