هويتان وأزمتان..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

توقفنا في قسم أوّل من هذا المعالجة عند دخول جيل جديد، ولد في سعودية خمسينيات القرن الماضي، حياة الثمانينيات العامة في مجالات مختلفة في تلك البلاد. وقد نشأت به ومعه، وتبلورت من خلاله، تجليات طبقة اجتماعية وسطى فتية وجديدة. ولنلاحظ أن نشوء هذه الطبقة ترافق مع، ونجم عن، طفرة العائدات النفطية بعد حرب أكتوبر 1973، وغروب شمس الحركة القومية العربية بعد هزيمة الناصرية في العام 1967.
وبما أن نشوء وحراك وتبلور الطبقات الاجتماعية مشروط بخصوصيات محلية تختلف وتتفاوت من بلد إلى آخر، حتى وإن حكمته قوانين عامة، ومحكوم أيضاً بما ينفتح أمام الطبقة الصاعدة من فرص، أو تُجابهه من تحديات، في الإقليم والعالم، فلن يتمكن أحد من الكلام عن الطبقة الجديدة في معزل عمّا يمكن تسميته بالاستثناء السعودي، وعمّا كان عليه الحال في الإقليم والعالم في ثمانينيات قرن مضى.
وهذا الاستثناء يتجلى في حقيقة احتكار الحقل السياسي من جانب تحالف فريد بين سلالة حاكمة، ومؤسسة دينية، مع غياب كامل للدستور، والبرلمان، والانتخابات، والمعارضة، والأحزاب، وكلها أشياء وثيقة الصلة بمعنى ومبنى العقد الاجتماعي في الدولة الحديثة. وقد جابه هذا الاستثناء تحديات وجودية في ستينيات وخمسينيات القرن الماضي، في زمن العواطف الجمهورية الجيّاشة، والمد القومي. وبقدر ما حررته الثمانينيات من عبء ثقيل فرضت عليه في عقود لاحقة تحديات جديدة، ولا تقل وجودية سابقاتها.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بما كان عليه الحال في الإقليم والعالم، فإن الثمانينيات هي اللحظة التاريخية التي أُعيدت فيها هيكلة النظام العالمي، والحاضنة التي وُلدت فيها الليبرالية الجديدة على يدي ريغان في واشنطن، وتاتشر في لندن، والتي حُسمت فيها المعركة لصالح النظام الرأسمالي العالمي وتُوّجت بانهيار الكتلة الاشتراكية في نهاية ذلك العقد، وهي التي شهدت، أيضاً، انسحاب مصر من دور القوّة الإقليمية، وما تلاه من فراغ، وسباق على ملء الفراغ، في العالم العربي، وكلها تحوّلات بعيدة المدى سوّغت للبعض الكلام عن عالم تحرر من الأيديولوجيا، والهموم والقضايا الكبرى. 
وإذا كانت العواطف الجمهورية الجيّاشة، ومعها المد القومي، كما الأيديولوجيا المساواتية والنزعة الراديكالية، وراء أقنعتها القومية واليسارية، قد أصبحت من مخلّفات الماضي في الثمانينيات. وعلى الرغم من حقيقة أن السعودية كانت حليفاً إقليمياً للرأسمالية المنتصرة في الحرب الباردة، وبالتالي جنت بعض ما توفّر بعد انهيار الكتلة الاشتراكية من مكاسب وامتيازات، إلا أن تطوّرات جديدة، وغير متوقّعة، أنجبت نوعاً جديداً من التحديات والمخاطر، وأبرزها، بالتأكيد، الثورة الإيرانية في العام 1979. 
ثمة الكثير مما يمكن أن يُقال في هذا الصدد، ولكن الدلالة التي أثارت من الرعب لدى البعض، بقدر ما أيقظت من الأحلام لدى البعض الآخر، تمثّلت في إيحاءات صريحة ومُبطّنة من نوع: أن الدين، لا القومية، يمكن أن يكون الآن قوّة راديكالية ومصدر تهديد، وأن فصله عن السياسة لم يعد ممكناً. وتصادف هذا مع محاولة الاستيلاء على الحرم، في السعودية، من جانب جماعة وهابية تزعمها شخص يدعى جهيمان، بالمشاركة مع، ونيابة عن، شخص آخر اعتقد زعيم المتمرّدين وأتباعه أنه المهدي المُنتظر. وفي الحالتين: انفتح باب الصراع على رأس المال الديني، وكذلك الاستثمار في الحقل الديني نفسه.
يُمثّل كل ما تقدّم خلفية عامة، يصعب الاستغناء عنها، في كل محاولة لتشخيص صعود طبقة اجتماعية وسطى في سعودية الثمانينيات، وما وسمها من خصوصيات سياسية وأيديولوجية جعلت منها حليفاً طبيعياً لليبرالية الجديدة (في السوق، وفصل مبدأ الربح عن القيم، وفي كراهية القضايا الكبرى والنزعة المساواتية)، بل ويمكن، بقدر قليل من المجازفة، القول إن تلك الطبقة كانت من المخلوقات المحلية لظاهرة ستعولم العالم وتعيد هيكلة الاقتصاد والسياسة والأخلاق بشكل غير مسبوق في عقود لاحقة.
فأوّل ما نعثر عليه من التجليات الأولى لنشوء الطبقة الوسطى وحراكها ما سُمي في حينه، وفي وقت لاحق، بالصحوة، أو جيل الصحوة. والواقع أن التحليلات التي حاولت رصد هذه الجيل، كما تجلياته الأيديولوجية، فشلت في إنشاء تحليلها استناداً إلى فرضيات من نوع أن ما يجري الحديث عنه، في الواقع، هو طبقة اجتماعية وسطى في طور التكوين، وأن لا وجود لظاهرة أيديولوجية بلا رافعة اجتماعية.
وقد أسهم غياب الرافعة الاجتماعية عن التحليل، ونفي الصفة الطبقية عن الظاهرة الأيديولوجية، في توليد حقل دراسي جديد، وشبكات مهنية، وخبراء في "الإسلام السياسي" في الأكاديميا والإعلام، لم يبحثوا عن الجذور في تضافر الليبرالية الجديدة مع الطفرة في عائدات النفط، وما طرأ من تحوّلات على موازين القوى في الإقليم، والعالم، مع نهاية الحرب الباردة، بل بحثوا عنها في سجالات ومرافعات فقهية تنتمي إلى قرون مضت، وفي بقايا أركيولوجية لصراعات وانشقاقات مذهبية ماتت وتحجّرت في الزمان والمكان.
كانت النيّة أن يكون القسم الثاني من هذه المعالجة ختاماً لقسمها الأوّل، وأن يُكرّس لخاشقجي الذي ذهب ضحية الولادة العسيرة والمتعسّرة لهوية في طور التكوين. ولكن هذه الأشياء مجتمعة لن تكون مفهومة دون خلفية عامة فرضت نفسها على هذا القسم. لذا، في أسبوع قادم نُكمل، مع ملاحظة أن موضوع خاشقجي لن يختفي من المشهدين السياسي والإعلامي في وقت قريب.