التجاعيد تظهر على وجه غزة !

images
حجم الخط

تبدو غزة مثل امرأة عجوز متسولة تجلس على قارعة الطريق، تمد يدها تحت أشعة شمس حارقة في يوم صيفي قائظ، منهكة ومتعبة، جار الزمان عليها وتوالت عليها نوائب الدهر، بعد أن عقّها أبناؤها، بعد أيام قليلة فقط، من يوم انعتاقها من ربقة الاحتلال البغيض، اليوم الذي ظنته يوم فرحتها !
لا تشير التقارير والتقديرات إلى أن نحو 90 % من أهل غزة، يفكرون بالهجرة، لو توفرت لهم الظروف، أو أتيحت لهم الفرصة لذلك وحسب، ولا أن أكثر من 50 % يعيشون على مخصصات الشؤون الاجتماعية، فضلا عن النسبة العالية لمن هم تحت خط الفقر، فكل مظاهر التعب باتت واضحة وصريحة على وجه غزة، التي لا تظهر أبدا كمدينة مزهوة بكبريائها وهي تصمد في وجه حروب احتلالية متتالية، بقدر ما يظهر عليها التعب الإنساني وقسوة ما يثقل كاهلها من هموم ومتاعب تهد الجبال.
أحد مظاهر التعب ارتفاع معدل العنوسة الذي بلغ حسب بعض التقديرات الخاصة 125 ألف فتاة، أي ما يعادل أكثر من ربع عدد الفتيات الغزيات في سن الزواج، وهذا ينذر بمشاكل عديدة، يبدو أنها دخلت كل بيت في قطاع غزة، الذي ما زالت عشرات آلاف العائلات منه في العراء، ولا شك أن الصعوبات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، تنعكس فورا وبشكل مباشر على الحالة الأمنية.
لم يقتصر التوتر الأمني على الجانب السياسي، وتجاذباته بين فتح وحماس، ولا على شكل استهداف بيوت وسيارات القادة والكوادر الفتحاوية، ولا كذلك على معاناة نحو 40 ألف موظف حمساوي بلا مرتبات منذ أكثر من عام، بل تعدت كل هذا، وكل من يراقب غزة من الداخل يلاحظ ارتفاع معدلات وزيادة حالات الجريمة بدافع السرقة، التي تحدث والتي تنذر بأن "انفجار" غزة، لن يكون في وجه أحد، كما يفكر المتصارعون على الحكم والسلطة، بالتوظيف الرخيص لمعاناة نحو مليوني فلسطيني، بل إنها ستنفجر في الداخل، وفي وجه الجميع.
لقد تعبت غزة، وملّت المتاجرة السياسية بمعاناتها، وهي لا ترى نفسها قادرة على مواجهة الأعداء والخصوم، وهي فقيرة ومتعبة، وغزة التي كان يمكن أن تتحول إلى نموذج يحتذى والى رافعة لكل المشروع الوطني الفلسطيني، تحولت إلى العكس من ذلك تماما، إلى عبء على هذا المشروع الوطني، فهي تنتظر المساعدات والإعمار وحتى الرواتب من الخارج، من المانحين والمحسنين، العرب والأجانب وحتى الرواتب من رام الله!
طوال أعوام ثمانية وهذا هو حال غزة، التي بالرغم من فقرها وجوعها وتعبها، تجد نفسها في مواجهة حرب إسرائيلية بمعدل كل عامين مرة، حرب لا تبقي على ما تبقى منها من لحم حي، من عظم أو دم أو أعصاب، فقط من أجل أن يثبت هذا الطرف صوابية برنامجه ضد ذاك!
بدأ الأمر برأينا بخطأ استراتيجي مركب أو مزدوج ارتكبته السلطة الفلسطينية حين رفضت أن تبحث مع إسرائيل في انسحابها الذي كان من جانب واحد من غزة العام 2005 على أنه إنهاء لاحتلالها، وأصرت على تأكيد وحدة الولاية السياسية مع الضفة، مع أن إقامة هوشي منه القائد الفيتنامي في خمسينيات القرن الماضي للجمهورية الفيتنامية في الشمال لم يحل دون مواصلة حرب التحرير مع الفيتكونغ في الجنوب، كان يجب أن توافق السلطة على أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة إنهاء لاحتلالها، مقابل السيادة الفلسطينية الكاملة على القطاع، وشرط أن تستلم السلطة المعابر الخارجية، وان تتصل بالعالم الخارجي عبر غزة، جوا وبرا وبحرا، وإعلان قوات أمن السلطة جيشا وطنيا، يحمي حدودها واتفاقياتها، وكان هنا يمكن تجنب الخطأ التالي وهو السماح بتمرير انقلاب حماس وسيطرتها على غزة، بل واستمرار هذا الانقلاب وتلك السيطرة حتى اللحظة بسبب افتقار السلطة إلى القوة العسكرية اللازمة والضرورية والكفيلة بفرض الشرعية وسلطة القانون وإرادة الشعب.
كان يمكن لغزة، المتعبة الآن والمجهدة والتي تجلس إلى جوار الحائط تنتظر دون جدوى صدقة خارجية، على شكل إعمار أو مؤونة أو رواتب، أن تظهر كعروس بعد أن تحررت من الاحتلال الإسرائيلي وبعد أن "منّ" الله عليها ببئري الغاز في البحر، ونحو 40 % من مساحتها والتي هي أخصب أراضي غزة لتزرع بالورود والتوت الأرضي والذي كان سيجلب لها نحو ملياري دولار سنويا، وكان يمكن لها أن تكتفي ذاتيا، بل وان تشرع بإدارة عجلة الاقتصاد الوطني، وإقامة كل مظاهر الدولة المستقلة، التي تدير المعركة الدبلوماسية والسياسية مع إسرائيل في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، والتحول في الوقت ذاته إلى "هانوي" فلسطينية، تقود وتدعم الكفاح في القدس والضفة من اجل التحرير والوحدة الوطنية، أما الآن، فليس من حل سوى بالعودة إلى أول الطريق، وأول الطريق هو احتواء حكم حماس لغزة، ليس على الصعيد أو المستوى الشكلي والخارجي وحسب، بل على المستوى الفعلي، وبالتحديد السلطة الأمنية، فلا بد أن تخضع القوة العسكرية من أجهزة أمن ومجموعات مقاومة: قسام وسرايا وكتائب وغيرها لقرارات السلطة الجماعية، مع ضرورة تصويب وضع القيادة السياسية بتنفيذ الحق الشعبي في الرقابة وفي إجراء الانتخابات وضمان دوريتها، أي باحترام إرادة الشعب كمصدر وحيد للسلطات كافة، وحين يعجز الشعب بكل تلاوينه وقواه عن انتزاع حقوقه من أهل القربى فانه سيعجز بالتأكيد عن انتزاعها من الأعداء والخصوم، حينها لا عزاء لأحد في أن يصيب الترهل وأن تعلو التجاعيد، ليس وجه غزة وحسب ولكن وجه فلسطين كلها!

 

عن الأيام