قبل الليلة الأخيرة وبعدها

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

 

تتعدد أهداف القصف الذي بدأ الليلة الماضية، وبدا كأنه أشبه بصدام بين الرؤى، بلغة النيران، قبل أن يتوصل الوسطاء المصريون الى تهدئة مستدامة، توفر مناخاً لما سيكون أثناءها على خط السياسة!

رؤية المحتلين الإسرائيليين، تنبثق عن طبائعهم، وهي تحسس الخطر من أي نقص يحتاجة التأكيد على أنهم المنتصرون الذين يرسمون خواتيم المراحل. بالتالي هم يريدون أن ينفردوا بالفصل الأخير، وهو المرحلة التي لن تكون فيها أية نيران سوى نيرانهم، ولا ضحايا سوى الشهداء الذين يسقطون في الجانب الآخر، أي جانبنا، لكي تأخذ الأحزان مداها، فيتفشى القنوط على الجانب الفلسطيني، متأثراً بالخسائر والآلام التي تأتيه من كل جانب. وهذه نظرية قديمة جديدة، كان العدو حريصاً على التأكيد عليها في كل حرب، حتى ولو كانت حرباً ذات بدايات ناجحة، في تاريخ الصراع العربي الصهيوني.  ففي حرب 48 ترافقت النهاية مع سقوط فجائي مريع، لمنطقة النقب، غطت آثارها الكارثية، على بطولات الجيوش والمقاومين، وتأثرت بها خطط ترسيم خطوط الهدنة، وتُرك أمر التحليل والتعليل واستنباط الأسرار، لمن يسجلون مذكراتهم ويقدمون الأسباب ويتفكرون في مواجهة معطيات الواقع ويراجعون منطلقاتهم الأولى ومن بينها فكرتهم عن طبيعة الصراع نفسه. وفي حرب 1967 خفَّ جيش العدوان، كمن يسابق الوقت، لكي يصل الى قناة السويس ويفرض واقعاً ضاغطاً على مصر ووادي النيل، وهو الأمر الذي واجهته القوات المسلحة المصرية، بمراحل المقاومة وأطوارها، من الردع الى الإستنزاف ثم الى العبور وحرب 1973. وحتى في تلك الحرب، وعلى الرغم من المآثر البطولية للجيش المصري، إلا أن العدو، وبمساندة الولايات المتحدة التي أقامت جسر إمداد سريع للجيش الإسرائيلي المهزوم، الذي خسر خط بارليف وتقهقر ووضع خططه العاجلة للانسحاب من كل شبه جزيرة سيناء؛ استطاع العدو إحداث الثغرة في الجهة الغربية من قناة السويس وتقدم في المساحات الصحراوية بثلاث فرق مدرعة، ووسّع تواجده، وحاصر الجيش الثالث الميداني شرقي السويس، وأنشأ معطيات أخرى تعزز موقفه في التفاوض.

القصد أن العدو، يحرص على الاستئثار بالخواتيم إن فاتته المقدمات. وهو الآن يعلم أن موضوع غزة وأحوالها، أصبح في طور التدوير، لذا فإنه يحرص على مفاقمة الأوضاع ومراكمة الخسائر، لكي تصرف غزة النظر تماماً حتى عن المسيرات السلمية التي تطالب برفع الحصار مع التذكير بحق العودة، وامتلاك ورقة ضاغطة!

الرؤية الفلسطينية على الجانب الآخر، وهي رؤية المقاومة، تتطلع الى خاتمة مختلفة لهذه المرحلة، دون إنكار أننا بصدد التعاطي مع مقترحات تهدئة مستدامة، تتأسس في أثنائها أوضاع سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات، مع عدا احتمال العودة الى المواجهة المسلحة مع الاحتلال. وفي هذه الرؤية، أصبح ضرورياً بالنسبة لغزة، أن تهدأ الأمور من عند النقطة التي تكون فيها لا تزال قادرة على المقاومة بما يتيسر لها من النيران. وللأسف، يتواصل السياق، بينما غزة تئن، والنُخب التي تحكم تترهل أكثر فأكثر، من بينها على صعيد النظام الرسمي الفلسطيني، أولئك الذين ارتضوا لأنفسهم دور اللامبالين، وغير ذوي الشأن، وإن أظهروا نوعاً من المبالاة، فيكون في الاتجاه المعاكس، اي إلحاق المزيد من الضعف في المجتمع الفلسطيني وفي الحركة الوطنية. وفي الوقت الذي يطالب فيه النظام الرسمي بالتمكين في غزة، دون أن يتمكن من نفسه حيثما يتواجد، تراه يخنق الموالين ويُجْهِز حتى على روح المنافسة لديهم في الحياة السياسية الداخلية، ويجردهم من الرؤية.

قبل الليلة الأخيرة، كانت حماس التي تحكم في غزة باسم المقاومة، معنية مع "الجهاد الإسلامي" وسائر الفصائل الصغيرة المسلحة؛ بالوصول الى تهدئة في الوقت الذي تكون فيه لا تزال قادرة على القصف المكثف. غير أن الأمور تبدلت في ليلة أمس، وبدت حماس معنية بإظهار ضبط النفس بينما العدو يقصف، بعد سقوط الضحايا من المتظاهرين السلميين في اليوم السابق. فقد استحث قتل المتظاهرين، جركة "الجهاد" على أن تقصف رداً على جرائم الاحتلال، وحرصاً على استمرار معادلة النار مقابل النار، ولم يكن لحماس الدور المنتظر، لأنها ربما نظرت بجدية لتهديدات العدو باستهداف رموزها والعودة الى الاغتيالات.

في الليلة الماضية، تداعت الأمور وفق رؤية المحتلين، الذين يحرصون على جعل خواتيم كل مرحلة لصالحهم. ولعل من أكثر التوقعات إيلاماً، أن اية تهدئة، لن تكون ضامنة لأن يكف العدو عن إطلاق الرصاص على المتظاهريين المجردين من السلاح!