في موازاة الحال الفلسطينية الراهنة، بكل ثقوبها وتناقضاتها، تخلتط وتتقاطع على الصعيد العربي والإقليمي، انعكاسات هذه الحال الفلسطينية في أشكالٍ شتى، آخرها التجرؤ علناً على استقبال موفدين إسرائيليين الى أقطار عربية، سواء كان الاستقبال في إطار منافسات رياضية ومؤتمرات دولية، أو زيارات أخرى غامضة، مسكوتٌ عن مقاصدها. وفي هذا السياق تحديداً، تُستثنى من التركيز الممزوج بالنقد أو الهجوم، الزيارات المتبادلة، بين حكومات دول عربية، لها علاقات معلنة واتفاقات مع الدولة العبرية!
ربما تكون زيارة نتنياهو الأخيرة الى سلطنة عُمان، هي الزيارة الرسمية الأولى، لرئيس حكومة ليكودي، الى بلد عربي خارج الدائرة الجغرافية الأولى. وكان واضحاً أن لهذه الزيارة أسرارها، وهي أعمق في أسبابها من تلك التي في زيارات الرياضة أو المؤتمرات الدولية، إذ سبقتها زيارة مفاجئة لرئيس السلطة الفلسطينية، سبقها بساعات زيارة رونالد لودير، الأمريكي الصهيوني الليكودي المتطرف، الى رام الله، ما يؤشر بوضوح الى أمر له ما بعده، وهو على الأرجح البدء في عملية تفاوض غير رسمية، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل!
إن ما يشجع على هذا الافتراض ظهور رونالد لودير كوسيط، اختاره ترامب من مناخات نتنياهو ومن أقرب أصدقائه. ولودير ذلك، هو الذي اختار مسقط، لتكون المكان المقترح للقاء قمة سوري ــ إسرائيلي، على امتداد عامين من المفاوضات غير الرسمية، التي بدأها لودير نفسه، في العام 1996 باقتراح مع صديقه رجل الأعمال والمقاولات السياسية جورج نادر، الأمريكي من أصول لبنانية. وللإنصاف، تنبه حافظ الأسد للفخ بعد أن أعطى موافقته ــ حسب قول لودير ــ على لقاء نتنياهو في مسقط، إذ أحس الرئيس السوري آنذاك، أن المقابل الذي تطلبه إسرائيل لسحب قواتها من الجولان، هو أن يتراجع الجيش السوري الى ما وراء دمشق، وتصيح المنطقة من مجدل شمس الى العاصمة السورية، منطقة استثمارات إسرائيلية، تحت عنوان التنمية المشتركة!
من ناحية المبدأ، وعلى الصعيد الأيديولوجي الموصول بمدركات القضية الفلسطينية، كان الوجدانه الشعبي الفلسطيني ولا يزال، يستنكر عن حق، أية اتصالات عربية ــ إسرائيلية. غير أن مثل هذه الاتصالات، في سريتها وعلنيتها، لازمت القضية الفلسطينية منذ بدء الغزو الصهيوني الى بلادنا، لا سيما عندما كان البريطانيون في فلسطين، ينفذون على الأرض، فحوى تصريح بلفور. وكان خرق المحظور، يجري في فلسطين نفسها، ومن بعض النُخب التي بيجلها الشعب الفلسطيني في الإقليم، ولم يكن الاتصال مع الإسرائيليين مُحرماً، وإنما يحرص أصحابه على إخفائه، إلا في مرحلتين هما صعود زعامة جمال عبد الناصر في الخمسينيات، ثم الثورة الفلسطينية في منتصف الستينيات، والى مدى زمني لم يأخذ مداه الأقصى.
بعيداً عن العواطف، في وسعنا القول، إن اللقاءات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، شبه اليومية، مع الإسرائيليين حتى في المنازل فضلاً عن المكاتب؛ لا تمنحنا القدرة الأدبية، على شجب زيارات إسرائيلية للعالم العربي، تتم في إطار مسابقات دولية أو مؤتمرات، لا سيما وأن أوضاع الدول اليوم، تجعلها حريصة على إظهار جدارتها على ساحة العلاقات الدولية، من خلال استضافة مؤتمرات أو مسابقات. فعندما يكون رئيس الشاباك أو الموساد، في بيت الرئيس الفلسطيني بالأمس، لن يكترث أيٌ كان لرأينا في ظهور مسؤول إسرائيلي في اليوم التالي، يتجول في عاصمة عربية. صحيح إن الموضوعات تختلف، لكن اختلافها ليس لصالحنا، وليس أدل على ذلك من النتائج الماثلة أمامنا.
لعل من أطرف الأمثلة على رغبة الحكام العرب في طيْ مرحلة التحريم البات والحاسم، للاتصالات مع إسرئيل، هو ما بدأ به الملك الحسن الثاني مؤتمره الصحفي، في يوليو 1986 لكي يتحدث عن زيارة شمعون بيرس العلنية المفاجئة الى مدينة "إفران" السياحية المغربية، عندما كان رئيساً لوزراء آسرائيل. كان العالم العربي، في تلك الليلة ينتظر سماع تبرير الملك للزيارة خلال مؤتمره الصحفي. وطار الى المغرب، ليتصدر الحاضرين في المؤتمر الصحفي، أحمد الجارالله، صاحب جريدة "السياسية" الكويتيه والتطبيعي القديم مع إسرائيل. وكان ما سمعته أمة العرب من الحسن الثاني، غير متوقع، إذ استغرق الرجل معظم وقت المؤتمر في الهجوم على جمال عبد الناصر الذي مات منذ 16 عاماً، وكأن الملك يقول لم يكن الميت على حق في تخويفنا من اللقاء بالإسرائيليين، وكان يرهبنا، وها هو قد أصبح من الأموات!
أيامها، كانت الثورة الفلسطينية مُعلّبة في فندق "سلوى" في تونس وفي بعض المكاتب. لذا فإن العلاقات بين الملك وإسرائيل، التي انتعشت في العام 1961 وجدت فرصتها سانحة للإعلان عن نفسها. وللعلم هي بدأت بعد وفاة المرحوم الملك محمد السادس، وقد دشنها الموساد باستئجار السفينة "إيغور" لنقل اليهود المغاربة الى بلادنا، وانطلق التعاون السري، الذي شمل قتل المهدي بن بركة، وإقامة غرفة لإسرائيل، علي مقربة من مكان انعقاد القمم، لنقل وقائع مؤتمرات القمة بالبث الحيْ!
لا جديد في الاتصالات والزيارات سراً بشتى وسائل التمويه، أو علناً بشتى لقطات التصوير. الجديد هو بؤس أوضاعنا وبلاءاتنا. فمن عندنا يبدأون، وبسبب أحوالنا يتوقفون ويمتنعون أو يواصلون، ولا جديد سوى بؤسنا!
