ليبرمان المحسوب على معسكر الصقور الصهيوني، بل ربما الأكثر تطرفاً و" حربجية" في هذا المعسكر، هو من دعا الى قصف السد العالي في مصر، وتوعد قادة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وبقية قوى المقاومة الفلسطينية بالتصفية في قطاع غزة، وأيضاً دعا الى ضم مناطق (ج) من الضفة الغربية (60%) من مساحتها الى دولة الاحتلال، ولا ننسى اطروحاته القائمة على التخلص من المثلث بمدنه وبلداته العربية عبر التبادل الجغرافي والسكاني في أي حل سياسي مع السلطة الفلسطينية، وهو مقتنع بأن الفلسطيني الذي لا يخضع بالقوة سيخضع بالمزيد منها، ولا يعترف ولا يقبل بأية حلول سياسية من شأنها أن تلامس الحد الأدنى من حقوق شعبنا الفلسطيني المشروعة، دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفق القرار الأممي ( 194 ).
الجميع يدرك بأن قطاع غزة يشكل مأزقاً مستديما لكل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وكان العديد من قادتها يمنون النفس أن يغرق قطاع غزة في البحر، ولكن الكثير من قادة أسرائيل، وفيهم الأكثر " حربجية" من ليبرمان رحلوا، وبقي قطاع غزة وبقيت القضية الفلسطينية حية.
هم يدركون بأنه لا توجد أية حلول عسكرية للقطاع ولا للقضية الفلسطينية، والخلافات بينهم في الحكومة والأحزاب الإسرائيلية، فيما يتعلق بقطاع غزة، ليس لجزء كبير منها علاقة بالأمن، بل تدخل فيه المزايدات والإعتبارات الإنتخابية. ولذلك أنا اعتقد بأن ليبرمان، استقال لإعتبارات لها علاقة بدوافع حساباته السياسة الإنتخابية الضيقة وليس بسبب خلافات جوهرية مع القيادة الأمنية ، بل مع نتنياهو شخصياً، حيث وجه انتقاده مباشرة له، واتهمه بالخضوع والرضوخ لحماس، وليس للجيش وأدائه، لقد اختلف مع نتنياهو معه في أكثر من قضية، قضية اخلاء الخان الأحمر والسماح بإدخال المنحة القطرية، والآن حول العودة للتهدئة، والتي قال بأن القبول بها يشكل هزيمة وفشلاً ذريعاً وخضوعاً لحماس وفصائل المقاومة....ليبرمان يدرك تماماً بأن استقالته سيكون لها أصداء وأثر معنوي كبير في المجتمع والشارع الإسرائيلي، والذي أبدى قدراً عالياً من الغضب تجاه نتنياهو، على خلفية موافقته على العودة للتهدئة، حيث تظاهر مستوطنو مستوطنات غلاف غزة، وأغلقوا الطرقات، كذلك نقلوا تظاهراتهم الى قلب تل أبيب، وقالوا لنتنياهو بأنهم ليسوا مواطني درجة ثانية، وان عليه الرحيل، وكذلك اعتبر الفلسطينيون بأن استقالته، هي نصر سياسي وعسكري ومعنوي لهم، حيث نجحوا في زعزعة أركان حكومة الإحتلال، خلال عدوان لم يتجاوز الـ 48 ساعة.
منذ الغزوة الأولى لفلسطين، وما تبعها من النكبة والحروب المتواصلة التي شنت على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، والهدف الصهيوني واضح: إستئصال المقاومة والقوى والدول القائلة بها، كخيار ونهج وثقافة، ورفض تقديم أية تنازلات ذات مغزى للعرب والفلسطينيين، من أجل تبريد الصراع أو تجميده، أو ايجاد مخرج أو حل له، ولذلك كانت القوة وليس غير القوة ما تستخدمه اسرائيل وحليفتها الإستراتيجية امريكا ضد الفلسطينيين والعرب، لدفعهم للتخلي عن المقاومة وحقوقهم المغتصبة، ولعل إستقالة ليبرمان لا يمكن لنا ان نصفها بأنها خروج عن المألوف والنهج والخيار الإسرائيلي، ليبرمان الذي هدد بمسح المقاومة من قطاع غزة، وهدد قادة حماس السنوار وهنية بالقتل خلال 48 ساعة.
إستقال ليبرمان وسواء جاء بينيت بدلاً منه، والذي يعتبر نفسه على يمين يمين ليبرمان ونتنياهو، وانه يطمح بتولي حقيبة الجيش، لكي يستعيد قوة وهيبة الردع الإسرائيلي أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، أو جاء نتنياهو نفسه، فهو لن يستطيع ان يقضي على المقاومة الفلسطينية، او يجبرها على الإستسلام، فالقضية، هي قضية شعب طرد وهجر من أرضه، ولن يتوقف مقاومته حتى يتحقق حلمه بالعودة الى دياره وأرضه التي طرد وشرد منها.
صحيح ان المرحلة بكل تجلياتها رديئة فلسطينيا وعربياً ودولياً، حيث الوضع الداخلي الفلسطيني غير محصن وموحد، والإنقسام يفعل فعل السرطان في الجسد الفلسطيني، وعربيا النظام الرسمي العربي عاجز ومنهار بشكل غير مسبوق، حيث نشهد حالة "تسونامي" تطبيعي علني بين العديد من الدول العربية ودولة الإحتلال، ومشاركة البعض عربياً لأمريكا في الضغط على الفلسطينيين قيادة وشعباً لتطويعهم للقبول بما يسمى بصفقة القرن، واعتبار اسرائيل دولة " طبيعية" في المنطقة، وبأن العدو الرئيسي للأمة العربية ومن يهدد أمنها واستقرارها هو ايران.
رغم كل ذلك نحن نرى بأن محور المقاومة في المنطقة يحقق ويراكم انجازات وانتصارات من طهران حتى غزة، وبأن مأزق دولة الإحتلال يتعمق في المنطقة، ولن تنجح اسرائيل وأميركا في شطب وتصفية القضية الفلسطينية.
ليبرمان بإستقالته، أطلق المعركة الإنتخابية القادمة، ويريد خوض هذه المعركة الإنتخابية، لكي يظهر أنه أكثر " حربجية" من أي زعيم اسرائيلي، وبأنه " رامبو" حقيقي، رامبو من " بلاستيك". معركة ليبرمان هي معركة على مستقبله ومستقبل حزبه السياسي، فإستطلاعات الرأي تشير الى أن حزبه، قد لا يتجاوز نسبة الحسم، ولذلك هو يريد المزايدة على نتنياهو، وإظهاره بأنه يتخلى عن أمن ومصلحة اسرائيل ويخضع امام " الفلسطينيين"، وهو يدرك بأن ليس فقط العملية الإستعراضية الفاشلة شرق خانيونس وما تبعها من ردع ولجم المقاومة الفلسطينية لدولة الإحتلال من القيام بأي مغامرة عسكرية، هو من أسقطه، لكون الثمن الذي سيدفعه سيكون باهظاً بشرياً ومعنوياً ومادياً، فالرسائل التي أرسلتها المقاومة الفلسطينية بصواريخها المتساقطة على مستوطنات غلاف غزة وعسقلان، قالت للقيادة الإسرائيلية ( القصف بالقصف) والعمارة بالعمارة و"الدم بالدم"، ونتنياهو نفسه سعى الى إذلال ليبرمان ودفعه للإستقاله، حيث وافق من خلال المجلس الأمني والسياسي المصغر على العودة للتهدئة ووقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية، دون أن يطرح ذلك للتصويت.
نتنياهو لا يستعجل حل الحكومة وإجراء إنتخابات مبكرة، وهو لن يسلم لبينيت بمنصب وزير الجيش، بل إحتفظ بهذا المنصب لنفسه، فهو يدرك بأن حزبي "كولانا" بزعامة كحلون وشاس برئاسة أرييه درعي يهددان بالإنسحاب من الحكومة إذا ما تولى بينيت وزارة الجيش، ولذلك هو سعى للحفاظ على الإئتلاف الحكومي الى أطول فترة ممكنة، وحذر القوى اليمينية من ان حل الحكومة، قد يجلب الكوارث على دولة الاحتلال، وذكر بإسقاط حكومة اليمين عام 1992، والتي أتت بما أسماه باليسار الصهيوني وكارثة أوسلو، وكذلك اسقاط الحكومة اليمينية مرة ثانية عام 1999، وما ترتب عليها من إندلاع للإنتفاضة الثانية، وأنه لا يجوز حل الحكومة في ظل الظروف الأمنية الحساسة التي تمر بها اسرائيل، والأمن فوق السياسية والبحث عن الشعبية، وانه يبذل جهوداً على مدار الساعة لتوفير الأمن لسكان الجنوب وكل دولة الاحتلال، وأضاف «قدمت حياتي كلها وما أملك من أجل أمن إسرائيل وفقدت شقيقي وأُصبت وتعرضت لكثير من الأذى، أنا لست مضغوطاً أو متوتراً ولا أُلقي الشعارات».
نتنياهو ليس ضد الانتخابات المبكرة، ولكن يريد إجراء تلك الإنتخابات المبكرة، وبما يحقق له أعلى قدر من الشعبية، ولذلك هو يرى بأن هذا الموعد، هو شهر أيار القادم، الذي سيلقي فيه الكثير من الخطابات في العديد من المناسبات منها " الإستقلال" والمحرقة " وغيرهما"، ويريد ان يحمل مسؤولية حل الحكومة لممثلي القوى اليمينية الأخرى بينيت وكحلون.
نتنياهو بخبرته وتجربته الطويلة، يدرك بأن الحل في قطاع غزة ليس عسكرياً، بل هو سياسي وتورطه في حرب على القطاع، قد يطيح بمستقبله السياسي، وكذلك هو ينظر الى الصراع مع حماس، على أنه صراع استراتيجي، يدار بوسائل سياسية، ولا يشكل خطر وجودي على " اسرائيل"، ولكن الخطر الذي يخشاه نتنياهو، هو الخطر القادم من طهران ومحورها، فهو يشكل الخطر الوجودي على دولة الإحتلال، وكذلك الشروع في تهدئة مع قوى المقاومة في قطاع غزة، قد يحقق اهدافه في تخليد الفصل السياسي والجغرافي ما بين غزة والضفة، ويحرم الفلسطينيين من تمثيل موحد أمامها وأمام العالم، وهو أمر يخدم إستراتيجية اليمين الإسرائيلي الذاهبة باتجاه الانسحاب من حل الدولتين، من خلال عزل غزة وتكريس حالة مناطق الحكم الذاتي في ما يتبقى من الضفة الغربية بعد ضم مناطق «ج» إلى إسرائيل، واعتبار غزة هي الدولة الفلسطينية العتيدة.
وفي النهاية نقول بأن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ونتنياهو هما من أسقطا ليبرمان، ويمكن إعتبار إستقالته بداية نهايته السياسية، وأن الحسابات السياسية والانتخابية الضيقة غلبت لديه على الاعتبارات الأمنية.