على الرغم من الجدية التي أظهرها الجانب المصري في سعيه الى المصالحة بين سلطتي رام الله وغزة لإنهاء لإنقسام وتحقيق وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة الطوفان الخطير والضاغط للإجهاز على القضية الفلسطينية؛ إلا أن كلاً من الطرفين، لا زال يتعاطى مع مسألة المصالحة بالذهنية نفسها وبالأسلوب نفسه، الذي يركز على الصلاحيات وعلى ضمانات الإستمرار في الحكم، بالأسلوب الذي أدمن عليه. فكل منهما، في موقفه الحقيقي، لا يريد مصالحة تأخذه الى موضع الاختبار أمام الشعب الذي هو مصدر السلطات. وفي كل مرة وجولة، يرتجل كل طرف لنفسه سبباً للفشل ينسِبه الى الطرف الآخر، ويكرر عبارات الحرص على المصالحة، بينما يستمر غياب التصالح ليس بين الطرفين وحسب، وإنما أيضاً بين كل طرف والمجتمع الفلسطيني الذي يحكمه بقوة الأمر الواقع.
من جانب رئاسة النظام الفلسطيني المعترف به دولياً؛ تدل مؤشرات الواقع على أن عباس والمجموعة التي معه، مطمئنة الى استحالة حصول الشعب الفلسطيني على فرصة لممارسة حقه في التفويض، لأن شروط بقاء السلطة الضفة، لا يستطيعها طرف آخر غير الطرف الذي يحكم الآن ويزهو بأجهزته الأمنية. وهذا الطرف مطمئن الى بحبوحته ودوره، ويعرف أن صناديق الإقتراع لن تقرر شيئاً آخر، في ضوء الشروط الإحتلالية لممارسة السلطة ولبقائها. وهؤلاء الذين يحكمون لا يلبون الإشتراطات الأمنية الإسرائيلية وحسب، وإنما يفعلون كل شيء لإحالة الحركة التي يحكمون باسم شرعيتها التاريخية، الى مُعادل موضوعي للسلطة نفسها الفاقدة لأوراق القوة، دون أن تُعطى هذه الحركة الفرصة لأن تتجدد أو تنهض أو تستقطب جيلاً صاعداً أو أن تؤثر في القرار السياسي أو أن تتمكن من جمع كادرها وأشتاتها. فقد أصبحت الحركة ممنوعة من الحراك في الاتجاه الوطني العام، وإن كان لديها بعض القوة أو عض الحماسة، فإن المتنفس المسموح به هو الحراك لسد الثغرات لمنع تسلل العفريت الدحلاني، وبهذه المنهجية المسخ، تضيع الرؤية ويعم التهاجي والسجال الداخلي، ويتعارك الشباب في الساحات البعيدة، وينصرفون عن كل سعي الى رفع مستوى الثقافة الوطنية والوعي بمخاطر المرحلة وفداحة الجمود والتجلط واستمرار الوجوه التي عافتها الناس وعافها الوطنيون، لا سيما الفتحاويين!
بكل أسف، ليست الصيغ المتداولة للتوصل الى مصالحة، قابلة للتطبيق. فالوقائع اليوم تؤكد على انسداد طريق التسوية، الذي يضاهي اقتصار هامش المقاومة في غزة على حق الدفاع عن النفس. فقد أصبح الطرفان، مقيديْن بالتزامات وتعهدات، باعتبارهما كيانات تحكم ولها مصالحها في الحكم. الطلقاء المقاومون الوحيدون الباقون، هم الشباب الذين يفيض بهم الغضب في الضفة الى حد الإنقضاض على الجندي الإحتلالي أو المستوطن العنصري المتعدي على الأرض والناس.
طالما أن الصيغ المتداولة للتوصل الى مصالحة، غير قابلة للتطبيق، بحكم وظائف وحسابات الفئتين المتخاصمتين؛ فلم يعد هناك سوى استعادة المعادلة السابقة: احتلال مُدان دولياً وحركة تحرر لا يقيدها قيد. فالحكم في الضفة أقل بكثير في معايير السيادة، من حكم ذاتي محدود، وبات الأكرم والأوجب لحركة فتح، أن تعترف بفشل مشروع التسوية وأن تستعيد دورها التاريخي، وإن أتيج الخيار الانتخابي للفلسطينيين تحت الإحتلال، يمكن أن تفوّض الحركة الموحدة والناهضة، مناصرين لها وليس مقتنصي مسميات مركزية في حركة تحرر تقررها مؤتمرات هزيلة،. ومثلما فعلت الحركة الوطنية في السبيعيات، عندما فوضت رموزاً للعمل الوطني، لخوض الانتخابات البلدية، ينبغي أن تعود الأمور الى شكلها الطبيعي والحقيقي، فهذه هي الاستعادة الحقيقية لدور منظمة التحرير ومؤسساتها، وليس استدعاء ما يشبه المنظمة، بفحوى يقرره عباس، لكي تؤدي دور المرجعية لسلطة حكم ذاتي محدود جداً، ومقيد بتعهدات والتزامات أمنية لصالح الإحتلال. لقد أثبتت التطورات، أن الداخل الفلسطيني أنضج وأكثر بسالة وأجدر بكثر لتحمل المهام التاريخية من حطام الخارج الذي تبقى بعد ارتقاء الزعيم ياسر عرفات.
ينبغي أن يكون هناك نقاش، لوضع الصيغة التي يخرج بها الجميع من المأزق الراهن. فالصيغ المتداولة لتحقيق المصالحة، والمبتدأ فيها تشكيل حكومة توافق، سوف تفشل سريعاً للأسف، فور الدخول في خبر المبتدأ.
