قهوة في يوم بارد مع الأسرى

102891531832457.jpg
حجم الخط

 

كان البرد قارساً في محيط كنغز كوليدج في كيمبردج، دون أمطار. فكّر أنه سينظر إلى "تطبيق" الجو، في هاتفه، خشية أن يكون الثلج قادما. دخل مقهى صغيرا، هو جزء من سلسلة عالمية كبيرة. الساعة التاسعة صباحا، ما زالت ثلاث ساعات تبعده عن موعده مع الأستاذة، التي استجابت لطلبه للقائها باعتباره زائرا للجامعة، وهي مختصة بالقضية الفلسطينية، حيث دعته للغداء، في قاعة للأساتذة. كان قد التقى فيها أستاذا آخر، تناولا "ساندويش جبنة" وقطف عنب، جلوسا على أرائك حمراء.

أمسك كوب "الكابتشينو"، وداهمته "نوبة" حديث.

لسنوات طويلة، كان يعرف أنّ لديه رفيقين خفيين، يحادثهما في خياله: عبدالحليم حافظ (1929-1977)، وخليل الوزير (أبو جهاد) (1935-1988)، ولكن النوبة هذه المرة مع أشخاص آخرين. في العادة يتحدث مع عبدالحليم عن الموسيقى؛ يعرف أنّه كان مُغرَماً، بأي اختراع موسيقي، أُدخل للموسيقى العربية، الغيتار الكهربائي، والأورغ الحديث، وآلات أخرى. يُخبِره، عن إمكانية تسجيل كل أغنياته على "فلاش"، وأنّه في وسط عمّان تُباع كلها على أسطوانة واحدة، ويناقش معه "معضلة" استخدام الإيقاع الإلكتروني في الغناء الجديد. ويتحدث مع الوزير، عن تعثر المقاومة الشعبية، وتعثر الوحدة الوطنية، وأن الفلسطينيين، لا يوجد لديهم صحيفة، عابرة للحدود، ولا موقع انترنت جامع، ولا قناة تلفزيونية تستقطب العرب والغرب وتجمع الفلسطينيين ولا تفرقهم، ويتحدث معه عن "السوشال ميديا"، و"الحركات والحِراكات".

كان يجلس لطاولة، تركَتها للتو فتاتان، يَسمح موقعها بمشاهدة المارّة، من النافذة. هُم في البرد، هو في الدفء. بَينما يُخرِج حاسوبه الصغير، وكُتبِه ليعمل، تواصلت "نوبة الحديث"، هذه المرة، مع إبراهيم حامد، ابن سلواد، المحكوم 54 مؤبدا لدى الاحتلال، وسألَهُ لماذا لا يجد طريقة لإنهاء رسالة الماجستير، في الدراسات الدولية، ألم يُنهِ كل المساقات، قبل اعتقاله؟

كتب على موقع "يوتيوب" اسم إبراهيم حامد، هو لا يعرف شكله، وبعد مشاهد عن محاكمته، ظهر فيديو أغنية، (مش كل مثمن مثمن)، عن ابن آخر لسلواد، ثائر حمّاد (11 مؤبّدا). عائِلَتَي حمّاد وحامد، تتقاسمان سلواد، والمجد، والأساطير. لمح خالد مشعل وقدورة فارس، ابني سلواد، كأنهما في المقهى. فكّر لماذا لا تنجح أغنيه ثائر، مثلما حدث مع أغنية "الزّعبور"؟ الشاب الذي لا علاقة له بالسياسة، وهو عمليا خارج عن القانون، رغم أنه ربما "مسكين"، لكنه لأسباب معقدة هو ومجموعة من أبناء مخيم بلاطة، أصبحوا على خلاف مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ومات في المستشفى، بعد اعتقاله، ولكن أغنية غنيت له ولمن معه سُمِعَت نحو 15 مليون مرة على يوتيوب، وصارت تُغنى حتى بالعبرية وبأعراس الإسرائيليين اليهود. كان قد "ناجى" أبو جهاد بخصوص الدّحية و"العومحلية".

تحدّث مع ثائر، عن كُتيّب ألفه ثائر عن عمليته، وسأله أين ومتى تعلَمَ عن المثولوجيا القديمة، وطائر الفينيق؟. لمح مروان برغوثي في كلية الدراسات العليا التي أسسها في سجن "هدريم"، ومن حوله حلقة فيها ثائر، حاول البحث إن كان عبدالله برغوثي (المحكوم 67 مؤبداً و5200 عاما)، في الحلقة.

مع تقدم أغنية ثائر، تخيل نفسه يسأل صديقا له من بلاطة، عن قصة الزعبور، ثم يسأله عن صديقه ناصر عويص، (14 مؤبدا، وخمسين عاما وستة أشهر، وأخ شهيد، وعم شهيد). أطرق خجلاً، وهو يتذكر ناصر الذي كان أصدقاؤه يسمونه، "البريء الأصبح"، يوم كان لديه شعر، فيه خصلة بيضاء، قبل "الصلع"، ويوم كان يُحب مدينة الألعاب (الجبيهة)، في عمّان بعد إبعاده أول مرة، قبل عودته للمقاومة. خجل وهو يعلم أن ناصر يُحاوِل متابعة تعليم وفرص تعليم أبناء وبنات عائلته، وأصدقائه، من سجنه، وخجل سائلاً نفسه ماذا حصل معهم؟ نقله السؤال إلى محمد عرمان، أبو بلال (36 مؤبدا)، عن معنى اسم قريته "خربثا"، وسأله عن الأسرى الذين توقفت رواتب عائلاتهم في الأشهر الفائتة، هل عادت؟.

وهو يفتح كتابا أكاديميا، بالانجليزية، سأل نفسه، ماذا بعد الخيال؟ هؤلاء أحياء، وليسوا مثل عبدالحليم، والشهيد الحي أبو جهاد. هل سيصافحهم قريباً؟ هل سيتحررون؟ هل سيقودون، ومعهم أحمد سعدات وعاهد أبو غلمة، والبقية، دولة فلسطينية حرة، على درب فلسطين؟ وكيف يتوقف النزيف؟

ahmad.azem@alghad.jo-جامعة بيرزيت