"في ذكرى وفاة فيدل كاسترو ما قيل يوما فيه قد يكون لائقا به في كل الأيام".
لم يكن فيدل كاسترو كائنا تاريخيا له وعي ووجدان وعواطف واجتهادات فقط، لقد بدا أيضا وكأنه بطل يصعد من رواية كتبها خيال أصيل ،حقيقي ومنصف، رواية تمجد قيم الثبات والصمود وبسالة الصبر والرهان على الزمن والناس والعمل والتاريخ، والإيمان الحاسم بالمنطلقات وإمكانية تحقيق الأهداف الكبيرة الكريمة.
لقد كان فيدل كاسترو من السرديات الكبرى لتاريخ العالم المعاصر ووعيه ووجدانه بسحر وروحانية يخصانه، وكان ذلك يتجلى في قامته وملامحه وممارساته وعقود المروءة التي أقامها بينه وبين نفسه وقيمه ونكهته الخاصة، وقد لاقى القول العالي والكريم كما يجب وكما يتعين "وما بدلوا تبديلا" بينما كانت أغلبية الأمة التي كرمتها السماء بهذا القول تسقط في امتحانه وتتحايل لتفادي شروطه والتخلص المهين من متطلباته.
فيدل ورفاقه خلصوا كوبا من براثن الظلم والقهر والفساد والهيمنة والتبعية والاستباحة والاستغلال والجهل، وذهبوا بها نحو أفاق تنمية شاملة متعددة الأبعاد، مسحوا الأمية ويسروا سبل تحول المعرفة إلى حق عام وواجب، وجعلوا العدالة والمساواة مرجع اعلي للعمل العام، واستخرجوا من ناسهم اعز ما في البشر: الكرامة والتحقق اللائق وسط أصعب الظروف، وكان بمقدور كوبا المحاصرة، فقيرة الموارد كريمة النفس أن تكون موعظة كبرى للمظلومين وإمكانية انعتاقهم،تخطت ذلك نحو دعم المقهورين أينما وجدوا على نحو بالغ الشرف منزه من أي غرض عدى القيم السامية.
لقد كان لتحرير كوبا صداه العميق في أمريكا اللاتينية وفي كل أرجاء العالم، ووصل دعم كوبا الأخلاقي والمعنوي والسياسي لقضايا الحرية والعدالة والإنعتاق إلى حيث يمكن، مثلما وصلت أقدام رجالها إلى كل حيث يمكن للنصرة والاستنقاذ.
وفيدل كاسترو لم يحول كوبا لمزرعة شخصية، لقد بنا جيشا وأمنا واقتصادا وتعليما وصناعة وزراعة وثقة وصمودا وعدالة تمتع بها الكوبين من كل أصل ولون ومنبت، كلف نفسه بان يكون الحارس الأول لكل ذلك، وبهذا وغيره انتقلت كوبا من بلد مُنتهكٍ ومُهانٍ ومحروم لبلد صامد ومقاتل من اجل الحياة الكريمة له ولغيره.
***
فيدل كاسترو: المهيب، البهي، طويل القامة عالي الهمة، المنحدر لتوه من أعلى لأعلى، الجلود الصبور، المؤمن "بحس المهمة وبحس انجازها" عال النظر، بعيد المدى، الصاعد إلى خياره وقدره "باسما" والذي كان القول يتدفق من إرجاء جسده ومعانيه بحرارة وغزارة وصلابة يعود إلى مثواه الأخير في سنتياغو دو كوبا بعد مسير طويل. يعود رمادا محمولا في احترام الناس ويمر بهم وبأحزانهم وفخرهم ومحبتهم ويمر في قولهم وذاكرتهم مرورا كريما.
فيدل كاسترو من هالة الحضور المدوي حيثما حل أو كان إلى هيبة المسار في خيارات كوبا والعالم وصولا إلى فخامة القبر مجللا بالغار والتقدير .طوبى.
فيدل كاسترو نتوق ليوم نواري فيه (أغلب) قادتنا الثرى كما أودعك شعبك، وكما أودعناك من بعيد وكأننا من رحم كوبا وغيمها ومن صلب شعبها ووجدانه ومن صميم روحه. لأنك كنت لهم ولنا وللمعنى العالي الذي يحتاجه الناس في كل حين.
لطالما كانت الحياة هبة تعطى للناس بدون اختيار منهم، بيد أن هويتها ظلت تتحدد بالمعنى الذي كان يعطيه الناس لأنفسهم في الوجود ويختارونه، وقليلون هم من جعلوا حياتهم استثمارا بهيا يجعل غيابهم الأبدي لحظة حضور تكون هي الأعلى في مسيرتهم. فطوبى.
• كاتب وأكاديمي من فلسطين