تداعي نظرية «الدولة الوظيفية»

التقاط.PNG
حجم الخط

 

لسنوات طويلة مضت، امتدت لعقود، نجح الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي، معتمداً على مؤسسات فكر وإعلام ولوبيات (جماعات مصالح) مؤيدة وداعمة قريبة من دوائر صنع قرار السياسة الخارجية الأمريكية، في ترسيخ مفهوم إستراتيجي للعلاقات الخاصة جداً التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة. هذا المفهوم هو «الدولة الوظيفية»، بمعنى أن هذه العلاقة الخاصة والفريدة جداً التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل منذ بداية عقد الستينيات من القرن الماضي تقريباً، وما تفرضه من دعم أمريكي عسكري ومالي وتكنولوجي واستخباراتي وإعلامي وسياسي للكيان الصهيوني مرجعها هو الدور الوظيفي الذي تقوم به إسرائيل في الدفاع عن المصالح الأمريكية، مما يعني أن إسرائيل تملك من القوة المتفوقة ولديها من العزيمة والولاء لواشنطن ما يكفي لجعلها وكيلة أعمال الدفاع عن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

هذا المعنى استعاده بـ «حسرة شديدة» الكاتب الإسرائيلي «إيال زيسر» في صحيفة «إسرائيل اليوم» (إسرائيل هيوم) الموالية لرئيس الحكومة بنيامين نيتنياهو (3/12/2018) وهو ينتقد بألم ما ورد على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفي توضيحه لأسباب الوجود العسكري الأمريكي في سوريا. إيال زيسر اقتبس الفقرة المحورية التي أثارت غضبه ورفضه الشديدين في مداخلة الرئيس الأمريكي في مقاله المشار إليه الذي نشره تحت عنوان: «رياح شريرة من الانقسام السياسي تهب في واشنطن». كتب زيسر: «فاجأنا الرئيس ترامب الأسبوع الماضي حين أعلن أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ليس لها سبب للبقاء في الشرق الأوسط، كونها لم تعد بحاجة إلى النفط العربي، فإنها قررت إبقاء قواتها في المنطقة، بسبب التزامها تجاه إسرائيل. وقد جاء هذا التصريح بعد نحو أسبوع من شرحه بأنه يؤيد ولي العهد السعودي في قضية قتل الصحفي خاشقجي، وبأن إسرائيل ستكون في مشكلات عويصة دون السعودية».

ما فهمه الكاتب الإسرائيلي من هذه الفقرة المقتبسة من تصريحات الرئيس الأمريكي التي تكشف هو أن الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط (سوريا خصوصاً) أضحى من أجل الدفاع عن إسرائيل، وأن انحيازه لولي العهد السعودي هو أيضاً من أجل إسرائيل هذا الفهم كان له وقع الصدمة داخل الكيان الصهيوني، لأنه يبدد نظرية «الدولة الوظيفية» التي ظل الإسرائيليون يروجون لها داخل أروقة صنع القرار الأمريكي لإجبار الولايات المتحدة على المزيد من «الانحياز الأعمى» في الدفاع عن الكيان الصهيوني حتى لو كان هذا الانحياز تجاوزاً مريعاً لقرارات صدرت عن الشرعية الدولية ولقواعد أرساها القانون الدولي.

احتجاجات الكاتب الإسرائيلي على تصريحات الرئيس الأمريكي لم تأت فقط من الخشية على إسرائيل من تداعيات هذا التصريح على الرأي العام الأمريكي إزاء إسرائيل فقط سواء الخوف من أن يجري تحميل إسرائيل مسئولية ما تنفقه الولايات المتحدة على وجودها في الشرق الأوسط واتهامها بأنها وراء تبديد أموال دافعي الضرائب الأمريكيين أو حتى الخوف من تحميل إسرائيل مسئولية موت أو إصابة أي عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، لكن الدافع الرئيسي لهذه الاحتجاجات هو كشف حقيقتين ترفضهما إسرائيل لتأثيرهما التدميري على نظرية الأمن الإسرائيلية وعلى الوجود الإسرائيلي ذاته.

الحقيقة الأولى أن إسرائيل لم تعد قادرة على أن تدافع عن أمنها بل ووجودها، وأنها باتت في حاجة إلى دعم وحماية أمريكية، وربما دعم من دول إقليمية، أما الحقيقة الثانية فهي تفكيك الرابطة الفريدة التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة وهي رابطة الدور الوظيفي الإسرائيلي في حماية المصالح الأمريكية، إما لتراجع هذه المصالح، خاصة النفط، على حد قول ترامب، حيث أضحت الولايات المتحدة دولة منتجة ومصدرة للنفط والغاز أيضاً، وإما لأن القدرات العسكرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على حماية الأمن الإسرائيلي ذاته.

إدراك هاتين الحقيقتين على المستويين الإسرائيلي والإقليمي، خاصة العربي من شأنه أن يحدث تحولاً هائلاً في معادلة الصراع المستقبلية من ناحية، لكن الأهم هو تأثيره من ناحية أخرى على إمكانية إعادة فرض قضية الوجود الإسرائيلي ذاته للبحث والنقاش، في ظل المحاولات الإسرائيلية المستميتة لطمس حقيقة أن إسرائيل «دولة افتراضية» أو «دولة استثنائية» وليست دولة حقيقية لأنها قامت على أساس اغتصاب أرض وممتلكات وحقوق شعب آخر، هو الشعب الفلسطيني. فالوجود الإسرائيلي أضحى مهدداً من الآن في ظل ما كشفه الرئيس الأمريكي من حقائق تتعلق بتدني القدرات الإسرائيلية الذاتية في الدفاع عن الوجود، وفي ظل تطورين آخرين أولهما نضوب منابع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وتزايد معدلات النزوح منها بسبب اهتزاز الثقة الأمنية في الدولة في ظل كثافة التهديدات، وثانيهما ارتفاع معدلات النمو السكاني الفلسطيني مقارنة بنظيره اليهودي والذي من شأنه، خلال عشر سنوات أو عشرين سنة على الأكثر، أن يجعل اليهود أقلية في دولة يريدونها «دولة يهودية».

السؤال الذي يخشاه الإسرائيليون ويهربون منه هو: كيف سيكون حال إسرائيل بعد عشرين عاماً من الآن في ظل كل هذه التطورات؟ السؤال يعيدنا إلى سؤال آخر أكثر دلالة ورد على لسان بنيامين نتيانياهو ضمن احتفالات إسرائيل بعيد تأسيسها السبعيني في ايار الماضي هو «هل ستحتفل إسرائيل بعيدها المئوي»؟!!

سؤال أجاب عنه الرئيس ترامب بصراحة زائدة في تصريحاته الصادمة، ويجيب عنه أيضاً العجز الإسرائيلي في إعادة تأكيد تفوق الردع الإسرائيلي، كما أكدته مواجهات غزة الأخيرة، وما تفضحه الآن مسرحية «عملية درع الشمال» التي يقودها نتيانياهو «لتدمير أنفاق يتهم حزب الله بحفرها لتهديد العمق الإسرائيلي»، دون قدرة منه على تجاوز هذا الدور الوقائي المحدود بشن حرب أو حتى التهديد بشن حرب على لبنان. فالعملية التي يجريها الجيش الإسرائيلي الآن تحت هذا العنوان الضخم «درع الشمال» ليست أكثر من عملية «علاقات عامة» على نحو ما يسخر الكاتب الإسرائيلي في (هآرتس) «عاموس هرئيل».

... عن «الاهرام» المصرية