ما وراء الاجتياح الأخير

thumbgen (11).jpg
حجم الخط

 

الهدوء الذي يهيمن نسبياً على الضفة، بفعل كثافة التدخل الإسرائيلي وتفرغ القوى الأمنية الإسرائيلية على مختلف تخصصاتها والتنسيق الأمني، جعل من صلية رشاش تطلق على هدف احتلالي تطوراً خطراً يضيء إشارة حمراء في غرف عمليات «جيش الدفاع» ويفتح جدلاً صاخباً بين المعارضة التي تلتقط كل صغيرة وكبيرة لإحراج نتنياهو وبين الائتلاف الحكومي المتهم بالتقصير الأمني والفشل.

لهذا وإذا كان مبرراً قدر من المرونة الإسرائيلية في معالجة التصعيد العسكري شبه الدائم في غزة، فإن هذا القدر من المرونة يختفي تماماً حين يقع عمل عسكري في الضفة، حتى لو كان بمستوى اكتشاف مقص خياطة في حقيبة فتاة، أو سكين يحمله شاب، فهذه الحالات وما يشبهها أو يفوقها يجري التعامل معها بالحدود القصوى وتبرر على أنها خطر وجودي على دولة إسرائيل.

قبل أيام قليلة اجتاحت قوة عسكرية منطقة رام الله، ولامست هذه القوة حافة منزل ومقر الرئيس محمود عباس، أغلقت الشوارع وحتى المنافذ الضيقة، وشلت حركة المواطنين، واقتحمت مكاتب وكالة الأنباء الفلسطينية، وقامت باحتجاز العاملين وتفتيشهم جسدياً، وذلك بتزامن مع تسيير مجموعات من المستوطنين كميليشيا مساعدة قامت باعتداءات على المواطنين الفلسطينيين العزل تماماً من أي سلاح وعاثت بممتلكاتهم ومزروعاتهم فساداً.

المظهر العسكري المباشر والصاخب للعملية الواسعة التي يسمونها «أمنية» لا تخفي على كثافتها ما وراءها من رسائل غير أمنية، وأولاها نفسية، ذلك أن الذين أرسلوا هذه القوة العسكرية الضخمة إلى قلب رام الله التي هي العاصمة الفعلية للسلطة الفلسطينية، يدركون كم ستؤثر على مكانة السلطة المتراجعة أصلاً لأسباب كثيرة، وكم من تأثير سلبي لها على الوضع الشعبي الفلسطيني، فبعد أن شعر البعض بالزهو من أن هنالك من يطلق النار على الاحتلال، شعر الجمع بإحباط ومرارة مردهما الاستباحة المتمادية، ليس فقط لما يمكن اعتباره محل شبهات أمنية كما تدعي إسرائيل، بل لمراكز حكومية تقدم للفلسطينيين على أنها رموز سيادية، فقبل عدة أشهر مثلاً جرى اقتحام لمقرات إعلامية في جميع أنحاء الضفة، وأحدها يبعد ستة أمتار فقط، أي عرض الشارع، عن المقاطعة التي هي بمثابة القصر الجمهوري المؤقت وضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات.

والى جانب هذه الرسالة ذات الهدف النفسي، فهنالك رسالة أخرى تتعلق بالموضوع الإشكالي الدائم الذي عنوانه التنسيق الأمني، فمن خلال عمليات من هذا النوع تقول الحكومة الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية بصريح الفعل قبل القول، إن لم تؤدوا واجبكم على صعيد الأمن كما نصمم نحن ووفق تقديرنا للأمور، فإن «جيش الدفاع» سيفعل أي شيء دون إقامة وزن لأي اعتبار، أي ستحقق ما تريد بتنسيق أمني أو من دونه، وليس صدفة ولا لمجرد المماحكة أن يسبق ويلحق أي اجتياح لمناطق السيطرة الفلسطينية الكاملة «أ» بتصريحات استفزازية واستعلائية يطلقها وزراء إسرائيليون، مفادها أن السلطة بكاملها جسم إرهابي ويتعين على الحكومة الإسرائيلية تفكيكها، فهي لن تكون بأي حال شريكاً في أي شيء.

غالباً ما تنسب هذه الأقوال لوزراء يمين اليمين المتشدد، إلا أنها على ساحة الفعل تجسد حال نتنياهو شخصياً وخلاصة ائتلافه الذي كلما احتاج إلى ترميم، وهو دائماً بحاجة إلى ذلك، فإظهار العين الحمراء ورفع الهراوة للسلطة واحد من مظاهره.

ورغم اعتراف الحكومة الإسرائيلية، وعادة ما يقال هذا الاعتراف بصوت يكاد لا يسمع، بأهمية التنسيق الأمني مع مؤسسات السلطة ذات الاختصاص، ورغم تبني الرئيس ترمب لاستثناء هذا الجانب من العقوبات الأميركية فإن تمادي نتنياهو في إهانة السلطة وزعزعة مكانتها عند أهلها، لا بد أن يؤدي بالتراكم إلى نتائج معاكسة...

قد لا نرى جبهة عسكرية تنشأ على غرار جبهة غزة، وذلك بحكم الاختلاف بين الحالتين، إلا أن اتساع دائرة العنف وعودة ظاهرة العمليات التي يقوم بها أفراد خارج أي سيطرة في الضفة، سيكون واحداً من التحديات المقلقة لإسرائيل، فمن يراقب ويحتوي مبادرات شبان وشابات يعدون بالملايين؟ وكونهم ليسوا أعضاء في إطارات معروفة فهذا يلغي أي إمكانية للسيطرة الاستخبارية في هذا الاتجاه.

هنالك معادلة تكرست رغم الفارق الضوئي في ميزان القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هي أن شعور إسرائيل بالأمن والطمأنينة لا توفره استعراضات القوة المتفوقة ونفخ العضلات العسكرية، بل يوفره حل سياسي يرضي الفلسطينيين ويلبي تطلعاتهم المشروعة كبشر من حقهم الاحترام والحرية والاستقلال، وهذا ليس كلام شعارات وأشعار، بل هو الحقيقة الوحيدة المجربة والراسخة على مدى العقود الطويلة التي تواصل فيها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

إن تصرفات إسرائيل تجاه السلطة المفترض أنها الأكثر مرونة واستعداداً للتفاوض والسعي نحو حلول سياسية تحت سقف القرارات الدولية، إن ذلك يوجه رسالة خطرة بالنسبة لإسرائيل، مفادها أن من يسعى لسلام مع الدولة العبرية يدفع ثمناً أعلى وأغلى من الثمن الذي يدفعه من ينادون بعكس ذلك.