لم يعد لفلسطين الاّ دمها تواجه به عدوها، الذي كان، ذات يوم، عدو الأمة العربية وأمة الإسلام والذين لم تفسد نصرانيتهم الصهيونية، وبات اليوم صديقاً لكثير من سلاطين العرب وحليفاً لبعضهم ضد أهلهم الأقربين في ارض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومسار البراق إلى المسجد الحرام.
صار لإسرائيل "حلفاء" و"شركاء" من قادة العرب في المشرق والمغرب، وفتحت عواصم عديدة أبوابها التي كانت مغلقة في وجه الصهاينة " لزوارها الكبار" بشخص نتنياهو، تستقبله على الرحب والسعة كحليف محتمل وشريك في المصير عبر مواجهة "الإخوة الاعداء"..
من حق نتنياهو، اذن، أن يقول إن العديد من وزرائه سيقومون بزيارات ودية لعواصم عربية دعتهم إلى زيارتها، "توثيقا" لعلاقة ودّ وصداقة بعد "عداوة غير مبررة" امتدت لأجيال عدة من دون مبرر! ولقد ذكر البحرين بالاسم بعدما تخلت عن الحذر وضرورة التستر في علاقاتها المستجدة مع العدو الاسرائيلي.
... ومن حق الفلسطينيين، بالمقابل، ان يستمروا في نضالهم من اجل تحرير ارضهم، مهما بلغت التضحيات، وان يزيدوا من نزولهم إلى الساحات والشوارع، في مدنهم وقراهم ومخيماتهم التي كانت مدنهم وقراهم عبر التاريخ، وان يواجهوا جنود الاحتلال المصفحين بما ملكت ايمانهم، ومهما بلغ الثمن شهداء وجرحى من اجل الارض المقدسة.
"ارض السلطة" ليست لها حصانة، انها بعض "ارض الجهاد".. وهكذا فلا ضير في أن تشهد عمليات رصد واقتحام لقوات الاحتلال الاسرائيلي.
***
.. ولسوف ترد قوات العدو الاسرائيلي، فتتصدى لها.. لن يأخذوا ارضنا ونحن ننظر اليهم بحرقة، صامتين، بل سنواجه بما ملكت ايماننا، فنحن أصحاب الأرض.. كنا، عبر التاريخ، وسنبقى في الحاضر والمستقبل.
****
الأرض العربية التي كانت تعج بتظاهرات الغضب وشعارات التغيير، تتبدى الآن صامتة كالقبور. قهرها النظام العربي، تماما كما يقهر العسكر الاسرائيلي تظاهرات أهل فلسطين.
اختفى اسم فلسطين من الحديث العربي، مكتوباً أو مذاعاً أو متلفزاً، المساحة كلها الآن للعدو الاسرائيلي، خصوصاً بعد انتقال العديد من اهل النظام العربي من خانة "الاعداء" إلى خانة "الأصدقاء". إن ستاً من الدول العربية تقيم الآن، أو هي على وشك أن تقيم علاقات دبلوماسية مع اسرائيل. وثمة دول أخرى تتعامل سراً مع الدولة التي كانت "عدواً" فصارت "صديقاً" بل "حليفاً".
لقد جاء "الربيع العربي" قبل أوانه قد استبق موعده متعجلاً ففاجأ الجمهور قبل "أهل النظام".. وكانت الفوضى التي مكنت أهل النظام من تغيير جلده لينقض بعد ذلك على "أهل التغيير" يخادعهم بحمل شعاراته وتبني مطالبهم ليطمئنوا اليه فيعيدهم إلى المربع الأول بعد تحذيرهم بل وتحميلهم المسؤولية عن تدمير الوطن والأمة.. تمهيداً لان ينقض عليهم فيفرقهم ايدي سبأ بين المعتقلات والمنافي او صمت السلامة.. ونسيان فلسطين.
***
لفترة طويلة احتلت غزة الصدارة، باسم فلسطين ومن أجلها.. في حين كانت الضفة الغربية المعزولة بالاحتلال الاسرائيلي تداوي جراح خيبة الانتفاضات المتتالية فيها التي لم تجد الحاضنة العربية.
ها هي الضفة تستعيد دورها وموقعها على خريطة النضال الوطني الفلسطيني، وتنطلق الشرارة من قلب "العاصمة الافتراضية" رام الله، ثم تتمدد إلى انحاء أخرى مؤكدة استمرار الانتفاضة.. طلبا للنصر، او اسقاطاً لمشروع تمدد الاحتلال في اتجاه القدس لتكون العاصمة العتيدة للكيان الصهيوني بديلاً من تل ابيب.. معززة قرارها بقبول بعض الدول (في اميركا اللاتينية خاصة) أن تنقل سفاراتها إلى القدس المحتلة، لا سيما وان اكثر من دولة عربية تصرفت وكأن الأمر لا يعنيها.. بمعنى انها تعتبر فلسطين جميعاً محتلة والسلام!.
***
في هذا الوقت كانت دول الخليج تحاول تأكيد "استقلالها" عن سائر الدول العربية، فتبتعد أكثر فأكثر عن فلسطين، مما يعني تقصير المسافة إلى الكيان الصهيوني..
وجاءت جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في واشنطن لتفتح جبهة جديدة ضد المملكة السعودية تبرر لها مهادنة واشنطن ومحاولة استرضائها.. لا سيما بعدما صوت الكونغرس بأكثريته الساحقة مع قرار إدانة المملكة بشخص ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان بجريمة اغتيال الخاشقجي، وهي غير مسبوقة بعلنيتها كما بفظاظتها.
وما يعنينا أن هذه الجريمة تحولت إلى أداة ضغط اضافية على المملكة، خاصة، ودول الخليج عامة... بل انها تحولت إلى مبرر إضافي لتقديم التنازلات السياسية عن طريق الاعتراف بإسرائيل، مما مكن نتنياهو من التباهي بأن العديد من الدول العربية (وفي الخليج تحديداً) هي في الطريق إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني مشيراً إلى "مملكة البحرين" بأنها ستكون "الرائدة" في هذا المجال.
***
يرى بعض المراقبين أن موعد التغيير في "السلطة الفلسطينية" قد حان، بعد خيبات الأمل المتكررة في احتمال "تنازل" اسرائيل، أو إلغاء اجراءاتها التي تستهدف اسقاط "مشروعية" الدولة الفلسطينية، بحيث لا تُبقي لها من ارض فلسطين التاريخية الا بعض القدس وبعض الضفة الغربية التي يمكن استخدامها كرهينة ضد الثورة او أي تحرك وطني شامل في كامل الارض الفلسطينية الباقية بأيدي أهلها الذين كانوا دائماً أهلها.
وهكذا، فان الشعب الفلسطيني يرى نفسه - مرة أخرى- وحيداً في مواجهة اسرائيل المعززة بالتأييد الاميركي المفتوح، والمعززة الآن بتحول "الصمت" العربي إلى "اعتراف بالأمر الواقع".. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي القدير.
البعض يتهم حركة حماس انها تهنيء نفسها لخلافة "فتح" في "السلطة"، مفيدة من تقدم محمود عباس في السن، والترهل في حركة "فتح" بعد إغراق كوادرها المميزة في السلطة التي لا سلطة لها. ولكي يعزز هذا البعض إتهامه فهو يركز على دور الجمهورية الاسلامية في إيران بتشجيع "حماس" على ركوب هذا المركب الخشن، وصولاً إلى اتهام قيادة "حزب الله" في لبنان بلعب دور المساند لهذا "التنظيم الاسلامي" هو الآخر، بغض النظر عن الفروق بين "سنية" الأول و "شيعية" الثاني..
***
مع الأسف، ليس بين الدول العربية من يجد لديه القدرة (او حتى "الرغبة") لإشغال الذات بالقضية الفلسطينية المعقدة، خصوصاً إذا احتسبت الولايات المتحدة راعية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، أمس واليوم وغداً.
ذلك أن معظم الدول العربية معطلة عن الفعل، أما نتيجة البعد أو الانشغال بهجوم أولى بالاهتمام: فسوريا والعراق، ومعهما لبنان، مثقلة بأشجانها والتركة الثقيلة للحروب فيها وعليها. والخليج يقارب الخروج من دائرة الحرب ضد اسرائيل ليدخل خانة "السلام" معها. والمغرب لا يحتاج "صلحا" مع اسرائيل. والجزائر مشغولة برئيسها الذي يرفض الاعتذار بشلل جسده لكي يخرج من دائرة السلطة .. وليبيا تنتظر من يعيد استيلادها من جديد.
السؤال المقلق الآن: هل دخل العرب، بمجموعهم، "العصر الاسرائيلي"، أم انهم – بكتلتهم العظمى ما زالوا رافضين الإقرار بهذا "الأمر الواقع" كقدر لا مفر منه؟
ومن أين يأتي الأمل.. الا من فلسطين ذاتها، ليوقظ الامة لتنهض إلى واحجبها في تأمين غدها.. الذي يمكن أن يكون أسوأ من الحاضر، إلا اذا حضرت الإرادة لتغيير الواقع وفق الأمل المنشود.. والحق المشروع.
* رئيس تحرير صحيفة «السفير» اللبنانية
