-خبر-كتب: أكرم عطالله
9 آب 2015
لا يعتلي مقال الذكرى سوى اسمه مجرداً من كل البلاغات فهو البلاغة نفسها وهو اللغة المنحوتة من حجر بمنقار سنونوة أو قبرة ...
هو نبي شعرنا الذي لم يتوقف عن صهيل الكلمات شرقاً وغرباً خوفاً من الثبات... هو الرواية والحكاية وكاتب السيرة منذ الرحيل الأول حتى الهروب الذي لم يتوقف عندما توقف قلبه عن الخفقان بعيداً هناك ليصدمنا برحيله كما كان صادماً بحضوره.
تباغتنا الذكرى سريعاً كما سنوات العمر، نحاول جاهدين ألا نكرر، فمن الصعب أن تكتب مرتين عن نفس المناسبة، ولكن الطفل الذي يتوق للعودة واللعب خارج الدار وما تركه من شعر غطى الكون وترجم لكل اللغات. يستوقفنا لتبرئة ضميرنا تجاه من علمنا اللغة وأمسك يدنا بقلم الرصاص ودلنا على حروف الوطن، منذ تفتحت سنوات عمرنا على بستان شعره؛ لنعرف منه أن خديجة لن تغلق الباب ولن تدخل في الغياب، لأننا سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل .. سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل .. سنطردهم من هواء الجليل.
محمود الذي سيّج حلمنا بالبنفسج في ذروة الرحيل الطويل من منفى إلى منفى، شاكياً المطارات للأنهار وبرودة العواصم وحرارة التوق إلى الوطن البعيد ... شجرة الجميز الذي كتب اسمه عميقاً على ساقها في طريق عودته من المدرسة .. إلى البروة التي غادرها بعدما ضيقت عليه السلطات الإسرائيلية كل المساحات، غادر باحثاً عن الحرية ليكتشف أن لا حرية سوى الوطن وأن الذئب أرحم عليه من إخوته حين لفظته المطارات والعواصم العربية، ليمضي سنوات عمره في باريس، لكن هاجس العودة ظل بكاءه السري والذري نحو وطن ظل يراه أجمل بقاع الأرض، مشدوداً بين قصيدتين ورحلتين ومنفيين وقاربين، ومعلقاً بين طائرتين وسماءين لا تتسعان لأحلامه، فالبروة كانت أكبر من كل السماوات.
ماذا سنكتب في الذكرى أكثر مما كتبنا سوى محاولة التحايل على وخزة الضمير الثقافي، لنثبت إخلاصنا لمن علمنا حرفاً بل حروفاً وكلمات وقصائد كانت كل منها تهز ريعان شبابنا وتوجه بوصلتنا نحو وطن وخيمة وكرمة عنب سرقت في الجليل ..
كنا مستعدين للتضحية على وقع قصيدة تذهب بنا نحو الحلم وكل قصائده ملغمة بالأحلام الجميلة فأي عاشق هذا؟
كنا كما ذلك الشهيد الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في حضن عجوز في الجنوب وعندما سألته تلك العجوز عن وصيته حمّلها أمانة أن تذهب لمحمود درويش في مكتبه ببيروت وتبلغه أنه ذهب للموت إثر قصيدة، وتلك الأمانة التي نقلتها كانت بمثابة الولادة الثانية لمحمود؛ لأنها وصلته في ذروة شعوره بالإحباط والعجز، وكان يفكر باعتزال الشعر، هكذا قال في إحدى رسائله.
كان ياسر عرفات الذي يحسب له رعايته للثقافة والمثقفين يقود ملحمة بيروت ورئيساً لأركانها وغرفة عملياتها التي لا تنام، وفي ذروة ذلك كان قلقاً على محمود يخشى عليه من الموت، وقد كلف حينها الكاتب زياد عبد الفتاح بمرافقة محمود بشكل دائم وكلف آخرين بتأمينه، كان يعتبر خسارته خسارة وطنية كبيرة ..
نجا محمود من الحرب وقد كان مطلوباً للتصفية بالاسم، هكذا يوم الخروج، حيث كانت حياته معلقة على نظرة جندي رآه على شاشة تلفزيون أو في إحدى المجلات وهو الحاضر الدائم فيها.
في «ذاكرة للنسيان» كتب محمود عن الحرب بلغته التي لن تتكرر عن القهوة وقطرة الماء التي لن تنزل من الصنبور والحياة الأولى والطائر والطائرة، غاضباً على من أسماها بذلك الاسم؛ لأن الطائر في غاية الرقة بينما الأخيرة في غاية التوحش، كتب عن الشهداء والمجازر وعن الموت وحب الحياة وسط القذائف، كتب معرياً هذا التنين العربي الهامد من المحيط إلى الخليج.
وفي «مديح الظل العالي» وزع اتهاماته بعيداً على الجميع، لم يترك أحداً، وعندما ألقى القصيدة كان فارس المعركة ياسر عرفات يصفق كأنه يقول لمحمود: «قل بالشعر ما لم أستطع قوله بالسياسة، لقد خذلونا كلهم يا صديقي».
في نهاية التسعينيات أجرى محمود عملية ترميم القلب الثانية، قال طبيبه الفرنسي: العملية ليست مضمونة والموت يكاد يكون محققاً ومع ذلك وقع على العملية الجراحية لينجو مرة أخرى، وقبل سبع سنوات من اليوم كان يعتقد أن الأمر سيتكرر عندما أبلغه الطبيب الأميركي ما كان قد قاله زميله الفرنسي، لكن الموت كان بانتظاره هذه المرة، وهو لم ينس وصيته قبل العملية: «إذا لم يكتب له الشفاء بسرعة ألا يتركوه يموت ببطء، مطالباً ألا يساعدوه بالأنابيب حتى لا يتغير شكله الوسيم».
أريد أن أموت جميلاً، «هكذا كتب أثناء بيروت عندما خاف أن تفتت جسده القنابل، لا يريد أن تتشوه معالمه، كان يريد للموت أن يكون جميلاً وللوداع أن يكون أجمل.
يومها وفي روايته الشهيرة صمم موته وتابوته والمشيعين، فكتب: «أريد جنازة جميلة يصطف خلفها المشيعون، يحكون سيرته، ويغمزون بنزواته، وأنه كان يعشق القطط والنساء والشعر...
كتب: أريد تابوتاً خشبياً أنيقاً وورداً أصفر، أما لماذا هذا اللون بالذات، لم نعثر على إجابة بين دفاتره، لكن أصدقاءه صنعوا للراحل الكبير ما يليق بأبهة الشاعر وورده الأصفر، وكان المشيعون، في ذلك اليوم الحار من آب، يبللون الأرض بالدموع والعرق وهم يودعون ابنهم الوسيم، ذلك الطفل الكبير الذي رحل قبل أن ننتصر، لكن أحداً لم يسأله علام ترحل أيها الشاعر المسجى فوق صوف اللوز وأرغفة الشعير، كما قال حين شَيَع كل الأبطال الذين سبقوه.
لقد كتب محمود على امتداد عمره ما جعلنا نقف مبهورين مع كل سطر وفقرة وقصيدة، إنه شعر لا يشبه ما كُتب قديماً، ولا الذي تعلمناه في المدارس.
كنا أمام مثقف من طراز مختلف يفتش في الكتب القديمة كأنه شاهد على سقوطها ولعبة حصان طروادة، كان يتابع الفلسطيني القديم وهو يجدف بقاربه العتيق مغادراً كريت ليستقر في جسد ياسر عرفات، ثم يتابع رحلته من جديد من صور إلى قرطاج، ومن قرطاج إلى مدينة القمر، ويعود معه إلى خبز أمه وقهوة أمه، لكنه اكتشف أن أمه تغيرت والقهوة لا تزال مرة بمذاق الاحتلال.
كان درويش شديد الإيمان بقيامة شعبه .. لم يكن يتصور أننا حتى بعد رحيله بسنوات لا نزال نفتش عن مكان وعن ذاتنا التي تاهت وسط خلافاتنا وصراعاتنا.
كم أدهشه أننا نزلنا عن الجبل قبل الموت بعام واقتتلنا على السلطة، وأصبح لكل أمير إمارة .. قد يكون هذا المشهد ما سرع بموته الذي ترك كل شيء، نسمة الجليل .. أمه .. جريدته .. رفاقه، وغادر ليعود، لكنه عاد كأن رحلة البحث بدأت من جديد .. مات دون اكتمال الحلم، مات تاركاً فراغاً في الثقافة الفلسطينية فقد تسيّدها دون منازع .. لكنه مات وسيماً جميلاً بريئاً .. شكراً لمحمود الذي أهدانا كل هذا الجمال...!
"الأشدقاء العرب"..لا تحققوا "نبوءة" محمود درويش!
06 أكتوبر 2024