مفهوما «الاشتباك مع العدو» و«المثقف المشتبك«

740961533665618.jpg
حجم الخط

 

حدد القادة الاستراتيجيون منذ حمورابي ومبدئه “العين بالعين والسن بالسن” مرورا بالقائد العسكري القرطاجي هنيبعل ومبادئه الثلاثة “إعرف عدوك، قاتله، ولا تقع أسيرا بين يديه”، وصولا إلى القادة العسكريين في العصر الحديث، حددوا قواعد قتالية، هي في الأغلب تنطبق على الحروب القتالية الكلاسيكية بين الدول، تتلخص في عدم الاستهانة بالعدو، وهي من أهم القواعد التي تجنب الجيوش الوقوع في شباك الهزيمة، حيث لا يؤخذ العدو على ظاهره، وإنما يتم التعامل معه على أنه أقوى مما هو عليه وأذكى وأكثر حكمة. تحقيق عنصر المفاجأة، التركيز على هدف واحد لتحقيق الانتصار، عدم التريث في الهجوم، الانسحاب بأقل الخسائر إن لم يتم تحقيق الهدف.

ولعل أهم القرارات التي يتخذها القائد، الانسحاب والتهيؤ لجولة ثانية أفضل من السقوط بشكل نهائي، انسحاب مع الاحتفاظ بالأسرار والإمكانيات يتيح له الفرصة في تعويض ما فات، ومعالجة الأخطاء التي أدت إلى عدم تحقيق الهدف، مع الاحتفاظ بفرصة تحقيق عنصر المفاجأة، مطبّقاً قواعد القتال السابقة.

في العصر الحديث، ولاعتبارات سياسية وعسكرية واقتصادية، جاءت حركة استعمار الدول القوية لدول وشعوب في ثلاث قارات من العالم، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فظهر مفهوم حرب التحرير الشعبية، بأساليبه العسكرية واشتراطاته المجتمعية، والاصطفافية القتالية، وانتهت ظاهرة الاستعمار العسكري لتستبدل بأشكال استعمار أخرى، أغلبها اقتصادي.

الاستعمار الوحيد الباقي على صعيد العالم هو احتلال صهيوني دائم لوطننا، واقتلاع شعب أصلي من وطنه التاريخي وتهجيره، وإحلال مستوطنين غرباء محلّه، وتدمير ما يزيد عن 500 من قرانا، واستبدال أسمائها، وتحوير أسماء المدن والبلدات والقرى واستبدالها بأسماء “عبرية”، في محاولة للاعتداء على الذاكرة الفلسطينية أيضا، ومحاولة تهويد الأرض والثقافة والبشر. وفشل العدو فشلا ذريعا في قواعده التهويدية، ولأن استراتيجيي القتال العسكري على مستوى العالم، لم يواجهوا نمطاً استعماريا شبيها بالاستعمار الصهيوني لفلسطين، ربما أهملوا وضع قواعد قتالية لمواجهته، ورغم ذلك، استفاد شعبنا الفلسطيني ـ الذي لم يبخل بالتضحيات المختلفة في سبيل قضيته، على مدى قرن زمني من المقاومة للاستعمارين الشريكين البريطاني والصهيوني ـ من كل التجارب التحررية الثورية العالمية، ليشتق قواعده المقاومة الموائمة لمجابهة مخططات الصهيونية، وحلفائها من الأمريكيين والغربيين والبعض من العرب، وعلى رأس أهدافها “أسرلة” الأرض والبشر، وترسيخ قاعدة صهيونية تقول “الكبار يموتون والصغار ينسون” وتحقيق قاعدة أخرى هي “أرض أكثر وعرب أقلّ”، مطبقا قواعده القتالية التي اشتقها استراتيجيوه السياسيون والعسكريون مبكرا (والتي أخذت تصطدم بواقع المقاومة بعد مرورعقود على إنشاء كيانه) امتلاك ميزان قوى عسكري متفوق على كل الدول العربية، المحافظة على كل أسباب ضمان أمن إسرائيل، المبادرة إلى الهجوم دائما، نقل الحرب إلى أراضي الخصم، إبقاء المستوطنين الإسرائيليين بمنأى عن الحرب وتداعياتها.

أفشلت مقاومة شعبنا في العقد الأخير بعضا من قواعد العدو، حيث أبقت على إيجاد حالة دائمة من الاشتباك معه، وإن كانت تمر في حالتي المدّ والجزر، لعوامل موضوعية وذاتية، من بعض أسبابها، عدم قراءة العدو جيدا، المراهنة على ما لا ولن يقبل به من حلول. من الأسباب الموضوعية أيضا، أن الحالة الرسمية العربية في معظمها كانت هدم وتحطيم الأهداف الفلسطينية، وأصبحت في وقتها الراهن عاملا مساعدا لتحقيق الأهداف الصهيونية، ليس على صعيد الوطن الفلسطيني فحسب، وإنما على صعيد المنطقة العربية برمتها، من حيث التغلغل الصهيوني في العالم العربي، وصولا إلى الهيمنة عليه، ما أثّر سلبا على إبقاء الاشتباك مع العدو مشتعلا.

قاتلت دولة الكيان طويلا وما تزال، من أجل إنشاء ثقافة إسرائيلية عبرية يهودية صهيونية واحدة، لكنها فشلت، فهي تظل تجميعا فسيفسائيا ثقافيا، مرتبطا بكل شعوب الأرض، ثم أن السمة الرئيسية لأي ثقافة هي ارتباطها بالإنساني مضمونا وأهدافا. الأدباء الصهيونيون، سخّروا نتاجاتهم لخدمة وتبرير الغزو الصهيوني لفلسطين، وتسويغ الجرائم التي يرتكبها الكيان بحق شعبنا منذ عشرينيات القرن الماضي. هناك بعض التقدميين من الكتاب الإسرائيليين، منهم الراحل عاموس عوز، الذي سبق أن وصفه المرحوم إدوارد سعيد بأنه لا ينفع إلا وجيه ضاحية. لقد منعت وزارة التعليم العالي الإسرائيلية تدريس رواية “بوردر لايف” للروائية دوريت رانبيان، لأنها تتطرق إلى قصة حب بين فلسطيني ويهودية! والأمثلة كثيرة على ذلك. منذ القرن التاسع عشر أدركت الحركة الصهيونية ما للثقافة من دور في خدمة أهدافها، فاعتبرتها حاملة لأفكارها، ومنطلقا لبث تعاليمها، وبالفعل ظلّت الثقافة العربية الأصيلة عصيّة على التطبيع مع العدو، ولعل الجبهة الثقافية العربية هي الوحيدة الأخرى التي لم تنهزم ولم تنكسر حال الجبهات السياسية والعسكرية والاقتصادية الأخرى، بفضل ثقافتنا الإنسانية المنزرعة عميقا في التاريخ، وبفضل المثقفين العرب الأصيلين، الذين لا ينتظرون تكريما ولا أوسمة من أحد، فإبداعاتهم المستمرة تتحدث عنهم، وهم ليسوا بحاجة للإشادة بهم، فهم يعون دورهم الوطني، يرقبون العدو بالمرصاد، ويردون بانتظام ومنذ عقود طويلة على أضاليله، ويكشفون زيف ادّعاءاته السلامية، ويفضحون ما يحاول العدو التستر به من أغشية رقيقة قابلة للاختراق من قبلهم، انطلاقا من واجبهم الوطني وإيمانهم بعدالة قضيتهم وعموم شعبهم، في ابتعاد واضح عن الفئوية الضيقة قصيرة النظر والأفق والتقييم، والجاهلة في معظمها لما يدور حولها من كتابات أصيلة. أما الكتّاب القلّة من المطبّعين فقد سقطوا شرّ سقطة، رغم ما يضعه بعضهم من نياشين تحت هذا العنوان أو ذاك، ومنهم من كرّس أوسمتهم بعض أطراف النظام الرسمي العربي.

ظهر مفهوم “المثقف المشتبك” بشكل أقرب إلى الرسمية مع استشهاد المبدع النظري الفلسطيني باسل الأعرج، الذي زاوج بين القول والفعل، حمل السلاح واستشهد في اشتباك مسلّح مع قوات الاحتلال الصهيوني، استمر لما يزيد عن الساعتين. من زاوية ثانية وحتى اللحظة، فإن تعريفا محددا للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها إليه، وانطلاقا من رؤية دوره، إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي أو في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم ابن خلدون، الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل “أصحاب القلم” وغيره، والذي أفرد فصلا كاملا من مقدمته، أكد فيه أن العلماء هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها. ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع، ما ذكره غرامشي في تعريفه لمعنى المثقف، منطلقا مما هو خاص بنمط الإنتاج، لذا يرى المثقف من خلال وجوده الاجتماعي، وإذ ذاك فإن نقل الثقافة من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، يعيد صياغة المثقف عند غرامشي، الذي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير وهكذا. ووفقا لجمال الدين الأفغاني، فإن دور المثقف يتمثل في التأمل في الحاضر من أجل تفسير النبل الإنساني وإضاءة الطريق لأبناء أمته على قاعدة التمتع بالروح النقدية واستخدامها في مراجعة الماضي.

بالنسبة لإطلاق صفة المثقف “المشتبك” التي كثر استعمالها مؤخرا في الساحة الفلسطينية، فلا بد من تشكيل هيئة مختصة، أفرادها ضليعون باللغة والقضايا الثورية، نزيهون غير منحازين، آمينون وعادلون، يعرّفون معنىً محددا لـ”المثقف” بداية، ولـ”المشتبك” ثانيا. صحيح أن المثقف يتوجب أن يتخذ معنىً واسعا، يبدأ من مثقف “مقاوم” ويصل إلى حدود “المشتبك” في تدرّج موضوعي يعكس صفات وتاريخ الإنسان ونتاجاته وإبداعاته وقراءتها وتمحيصها، بعيدا عن الرغائبية والمزاجية، والالتزام بشروط محددة موجودة في المثقف وليست مجترّة اجترارا، وأن يتم تطبيقه بأثر رجعي على كل مثقفي الثورة الفلسطينية والمثقفين العرب على مدى قرن وحتى اللحظة، ممن لعبوا أدوارا تاريخية في التهيئة للثورات الفلسطينية القديمة والمعاصرة بالمعاني التاريخية، والمجتمعية والفعلية موضوعيا وذاتيا، وما أكثرهم في ثورتنا، حتى يعطى للصفة مضمونها، وحتى تنطبق على من تُطلق عليه.

 

عن جريدة "القدس العربي" اللندنية