10 آب 2015
تجري هذا الشهر انتخابات زعامة حزب العمال البريطاني بعد استقالة زعيم الحزب "إد ميلباند" إثر خسارة الحزب الفادحة في انتخابات أيار الماضي.
وتبدو الانتخابات لافتة بسبب وجود مرشح يتبني مواقف جديدة ومتقدمة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إنه النائب جيرمي كوربن المعروف بمناصرته للمواقف الفلسطينية ومناهضته لإسرائيل ووقوفه مع مقاطعة إسرائيل ودعمها.
ويتنافس على زعامة الحزب إلى جانب كوربن ثلاثة متنافسين آخرين هم آندي بيرنهام ويافيت كووير وليز كيندال.
النائب جيرمي كوربن الذي قدم طوال العشرين سنة الماضية مواقف مناهضة لسياسات حزب العمال فيما يتعلق بالحرب على العراق وتجارة السلاح وبالطبع الموقف من القضية الفلسطينية وطريقة حل الصراع في المنطقة، كوربن قدم مقاربات جديدة وصادمة بالنسبة للكثيرين.
ومنذ العام 1951 تجري هذه الانتخابات الداخلية للحزب التي يشارك بها أكبر عدد من المسجلين، من أعضاء أو مناصرين.
بالطبع الفضل يعود لوجود كوربن والنقاش الحاد الذي دفع به للواجهة حول مستقبل الحزب، فالأمر شجع المهمشين في الحزب وأنصاره اليائسين من رؤية حزبهم في السلطة مجدداً والذين يرون فيما يقوله كوربن فرصة لإعادة الحزب للصدارة.
فيما أيضاً تدافع من قالوا إن الحزب سينتهي إذا تزعمه كوربن إلى التسجيل للمشاركة في الانتخابات للحفاظ على حزبهم.
يمكن فهم صعود كوربن في ظل حالة الترهل التي يعاني منها حزب العمال بعد خسارته وتقلص عدد مقاعده في البرلمان، حيث جاء تشكيل الحزب الإسكتلندي على حسابه إذ أن أنصار الحزب من الإسكتلنديين ذهبوا الآن لحزبهم القومي، وهو ما يعني أيضاً محاولة المحافظين تقديم أنفسهم أنهم حزب الإنجليز دون المجاهرة بذلك، بل تبنى بعض السياسات الاقتصادية التي كان يتبناها العمال قبل ذلك من أجل التخفيف عن الطبقات المعوزة.
ويرى البعض أنه في ظل حالة الاستقطاب الوطني الحاد داخل الرأي العام وبعد تقديم حزب المحافظين لنفسه بوصفه حزب الإنجليز مقابل حزب الإسكتلنديين وفي ظل تمركز النقاش على المحاور الوطنية فإن الخيارات المتاحة أمام حزب العمال وهامش الحركة يظل ضئيلاً، لكنه ممكن.
من هنا فإن الذهاب أكثر نحو اليسار في ظل زحف المحافظين التدريجي نحو الوسط وشمل بعض قضايا ومطالب الطبقات المتوسطة والعاملة في برامجه وسياساته مثل التخفيض الضريبي وتسهيل خدمات الدولة، وهي قضايا كانت في صلب اهتمام حزب العمال سابقاً، في ظل كل هذا فإن على حزب العمال أن يقدم نفسه بوصفه حزب اليسار الحقيقي.
جزء من هذه المقاربة الجديدة تتطلب مقاربة سياسية جديدة تمثل افتراقاً عن مواقف حزب المحافظين ومورث حزب العمال السياسي.
من هنا تبدو أفكار كوربن مغرية وقادرة على أن تقرع الأجراس كما يقول المثل الإنجليزي.
كوربن ابن الـ66 عاماً نجح في حرف النقاش داخل التنافس على قيادة الحزب نحو قضايا هو من جلبها إلى حبلة المنافسة.
وكان كوربن ترشح في اللحظة الأخيرة بعد أن ألح عليه الكثير من نواب الحزب في البرلمان أن يفعل ذلك.
وقتها كان كوربن أضعف المرشحين وأقلهم حظاً، لكنه الآن يبدو ووفق الاستطلاعات الحديثة يتربع على صدر المنافسة ولديه الكثير من الفرص بالفوز.
ليس هذا فحسب بل إن مقاربات كوربن المتعلقة بالخدمات والشأن الداخلي البريطاني تبدو مهمة ولافتة لشرائح الناخبين، فالنائب المخضرم يتحدث عن حماية المرافق العامة وزيادة الضرائب على أصحاب الثروات ورؤوس الأموال، ويتحدث عن ضرورة ملكية الدولة للمصارف ووقف البرنامج النووي البريطاني ورفع الرسوم الجامعية عن كاهل الطلاب في إنجلترا، بل إن كوربن وعد بأن يعيد تأميم ست شركات ضخمة تهيمن على قطاع الطاقة قائلاً: إنها يجب أن تعود للدولة.
واقترح أن تقوم الدولة بشراء حصص في ملكيات هذه الشركات تؤّمن لها قوة ضغط لحماية مصالح المواطن.
والأمر نفسه ينسحب على الطاقة التي يجب أن تكون ملكيتها عامة دون أن يطالب بسيطرة الحكومة عليها، وهو يطالب بمحلية التوزيع الكهربائي بحيث تتولي المدن والبلدات إنتاج طاقتها والإشراف على توزيعها، واستذكر النموذج الألماني في ذلك، ويقول معارضوه إن شراء الدولة لشركات الطاقة الست سيتطلب مبلغ 150 مليار جنيه أي أكثر من 200 مليار دولار، كما أن بعض هذه الشركات لدى شركات أجنبية لها مساهمة كبيرة في رؤوس أموالها.
ولم يتردد قبل يومين في دعم إضراب الاتحادات في قطاع المترو الذي شل لندن ليومين.
وسياسياً كان كوربن هو أول من سمح لجيري آدامز زعيم الشين فين الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي بالحديث في البرلمان البريطاني.
وهو معروف بأنه كان سباقاً بالحوار مع الشين فين، حتى أنه مؤخراً رفض إدانة الجيش الايرلندي، رافضاً أن يكون النقاش حول الماضي بل حول المستقبل.
بعبارة أخرى فإن ما يقوله كوربن هو ثورة وتحول كبير قد لا يقدر عليه إلا إذا أراد الحزب فعلاً أن يقوم بعملية تصحيحية في مساره ويجدد نفسه حتى يصبح قادراً على مواجهة التآكل في شعبيته، إلا أنه سيكون عليه أيضاً أي الحزب وكوربن المقدرة على إقناع الناخب البريطاني بذلك.
هذا التنامي في الدعم الذي بات يلقاه كوربن بات يقلق خصومه ومن يجادلون أن مستقبل حزب العمال ذاهب نحو الضياع إذا قاده كوربن بل إن الحزب سيتحلل، وهؤلاء هم عادة "البليريون" (نسبة إلى بلير) والذين يأتون من مواقع اليمين في الحزب.
السؤال هل سينجح كوربن في الفوز بزعامة الحزب الذي يعاني آثار هزيمتين متتاليتين في الانتخابات البرلمانية ولا أحد يعرف ماذا سيفعل مرشحوه قريباً في انتخابات عمدة لندن، وإذا نجح هل سينجح في لملمة الحزب والتقدم به نحو الانتخابات القادمة والفوز بها؟
تبدو هذه أسئلة صعبة، ولكن من المهم فهمها ضمن السياق العام للتحول في البرلمان البريطاني.
يعد الحزب الإسكتلندي الذي جاءت مقاعده على حساب مقاعد حزب العمال والتحولات التي يجريها كاميرون على حزب المحافظين ليقدمه دون ضوضاء بوصفه حزب الإنجليز الذي ينافس حزب الإيرلنديين وحزب الإسكتلنديين. حتى نفرح وحتى لا نفرط في التفاؤل وحتى نفهم الأمور في نصابها الصحيح.