د.محمود الفطافطة " ما لم يُقل عن العقاد "

 د.محمود الفطافطة " ما لم يُقل عن العقاد "
حجم الخط

لا يُمكن الحديث عن قضايا الأدب والفكر والتاريخ العربي في العصر الحديث دون تجاوز قامة معرفية سامية؛ متمثلة في أديب العربية وعملاقها عباس محمود العقاد. هذه المفكر المصري التي نذر حياته للمعرفة العميقة والشاملة على مدى عقود بهرنا بغزارة كتاباته، وتنوع اهتماماته، وقوة منطقه، وعصاميته التي لازمته في حياته، كما كنا مشدوهين بمعاركه الأدبية والسياسية التي كان يندر أن يغادرها إلا منتصراً فائزاً!

 

هذه الشخصية المبدعة والخصبة في العطاء المعرفي ــ عبر تأليف أكثر من 150 كتاباً، إلى جانب ما أثاره العقاد من معاركٍ في السياسة والأدب والفكر في صالونه الثقافي الشهير الذي كان يقيمه كل يوم جمعة في بيته ــ لا تزال تثير الجدل حول أفكاره، والإثارة حول سيرة حياته.

 

فالعقاد

 

وفي الفقرات التالية سنتطرق إلى مختارات لسيرة العقاد جاءت في كتاب (العقاد يحكي سيرة حياته) للمؤلف البارع والإعلامي الحر والمترجم الخصب الصديق معتز شكري الذي شرفني بإرسال كتابه الكترونياً، إذ قمت بقراءته مباشرة؛ لأجد فيه الكثير الكثير من المعلومات التي تُنشر لأول مرة، لا سيما فيما يتعلق بنشر تفاصيل لقائه الوحيد على التلفزيون المصري في العام 1964.

 

فقبل الخوض في تسجيل هذه المختارات، أود التأكيد على أن العقاد يمثل لي أحد أبرز الأعمدة الفكرية والثقافية التي استقي منها معلوماتي المعرفية، ففي الوقت الذي أرسل فيه الصديق " أبو شكري" كتابه كنت أطالع، بين حينٍ وآخر، ثلاثة كتب للعقاد هي (التفكير: فريضة إسلامية، وهتلر في الميزان، وعبقرية علي). مثل هذه الكتب وغيرها الكثير التي خطها العقاد في حياته (١٨٨٩−١٩٦٤) تُمثل منهلاً خصباً وصافياً لكل من يريد أن يعي تاريخه، ويفهم عقيدته. فالعقاد سيبقى، في حياته وبعد مماته، أيقونة معرفية كبيرة في التاريخ الفكري واللغوي والأدبي والسياسي العربي المعاصر.

 

نعود إلى كتاب الصديق شكري، إذ يقول في مقدمته:" ستظل شخصية عباس محمود العقاد مصدر حيرة ودهشـة لكـل مـن عاصـره وعايشه، ثم لكل من قرأه ودرس سيرته وآثاره حتى ولو لم يعايشه أو يعاصره، وهو في رأي الكاتب "آية" مـن آيـات الخـالق العظـيم، و" أعجوبـة" مـن أعاجيب الدنيا، يندر أن يتكرر مثالـه ويتعـدد نموذجـه بـنفس مـا كـان عليـه هـذا الرجل، اللهم إلا إذا شاء خالق النوابغ وملهم العباقرة، فلا َحرج على فضله".

 

ويرى شكري أن الأستاذ العقـاد حجـز لنفسـه موضـعا ً شـريفا ً وراقياً في سجل عظماء الفكر الإنسـاني ورمـوز المعرفـة والأدب والثقافـة، وهو موضع يصـعب جـداً، إذا لم يكـن مسـتحيلاً أن يزحزحـه عنـه أحـدٌ مـن كارهيـه وغامطي فضله والناقمين عليه، لأنه استحقه بمجهودٍ جبار، وإرادة فولاذية، وهـذه سنة من سنن الخالق في كونه ألا يضيع أجرمن أحسن عملا (كما يقول شكري).

 

ويبين الكاتب شكري أن حياة العقاد كانت كلها قراءة وكتابة وعلمـاً وفكـراً مع الناس، يؤدي لهم زكاة علمـه ويفـيض علـيهم من عطفه وحسن خلقه، في بساطة ووداعة، ويؤدي حق مجتمعه عليه كرائد كبيـر ومعلم عظيم، خلافاً لما أشاعه عنه خصومه أو جاهلو حقيقته.

 

ويذكر الكاتب: إن عبقرية العقاد لا تقل عن عبقرية أينشتاين بحال حتى مع كون كل واحد منهما له ميدانه الذي تتجلى فيه عبقريته. وإذا كـان غانـدي قد ُوصف بأنه " روح عظيم" فإن العقـاد في رأينـا جـدير بـأن يوصـف بأنـه " عقل عظيم". ويضيف " ذلـك الهـرم الضـخم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بقلـم جبـار وفكـر موسـوعي وشخصـية فولاذيـة، ومشروع تأليفي وتثقيفي هائل، والذي نهل الناس جميعا من علمه وأدبـه منـذ قـرن من الزمان ولا يزالون، مع أنه هو نفسه لا ينل من التعليم الرسمي إلا أقل القليل".

 

ويفند الكاتب في كتابه ما روج عن العقاد بأنه كان عميلاً لبريطانيا أو أميركا أو سواهما. فنراه يقول: كيف يكون صاحب "عبقريـة محمـد" صـلى الله عليـه وسـلم، وصاحب "حقائق الإسلام وأباطيل خصـومه" عمـيلا ؟!. فالعقاد الذي فنّد أراجيف المستشـرقين في "مـا يقـال عـن الإسـلام" وفي عشـرات الكتب ومئات المقالات، ودافع بحججٍ قوية عن عقيدة الإسلام وهاجم كل مذهب هدام وفنّد كـل اعتقاد مخالف على مدى نحو خمسين سنة من حياتـه كيف به أن يكون عميلاً؟

 

وفي هذا السياق يورد الكاتب رسالة الأمام الأكبر شيخ الأزهر للعقاد بخصوص كتابه " عبقرية محمد"، إذ جاء فيها: حضرة الأستاذ عباس محمود العقاد لقد شفيت بكتابك (عبقرية محمد) صدور قوم مؤمنين، وأقمت الحجـة عـلى الشاكين والجاحـدين، وفتحـت للنـاس طريقـا ً جديـداً في البحـث عـن الشـمائل المحمديـةَ، وكنـت صـادق البرهـان، ناصـع الأسـلوب، مشـرق الديباجة. وأسأل الله أن يمكن لك حتى تزود القارئين بأمثاله. والسلام عليك ورحمة الله.

 

كذلك، فقد أشاد بالعقاد كثيرين من المفكرين والكتاب، يذكر الكاتب منهم الراحـل العلامـة الدكتور محمد رجب البيومي، إذ قال في العقاد:" كان اتجاه الكاتب الكبير في مجال الحديث عـن الإسـلام متشـعباً ممتـد السبل والآفاق، وقد ألمعنا إلى أشد هذه الطرق وضوحا، وأكثرهـا ً اتسـاعا. إننا نشيد بعبقرية كاتب إسلامي مناضل، دافـع عـن الحق ً بعيداً عن الغرض، ووقف في الميدان ً فارسا ً معلما، ينازلـه مئـات الخصـوم فيبــارزهم في ثقــة، ثــم يعــود ّ مكلــلاً بالنجاح.

 

ولا ينسى الكاتب شكري رأي أحد أهم تلاميذ العقاد، وهو الكاتب الكبير أنيس منصور، الذي يعتبر من أكثر الكتاب كتابة عن العقاد، إذ يورد عنه قوله" لم أجد في الأدب العربي أو الفكر الإنسـاني مـن هـو أتعـس مـن أبـي حيـان التوحيدي إلا الأستاذ العقاد". فالعقاد مر بفترات عصيبة جداً من العوز المالي والفقر الشديد لكنه لم يساوم على مبادئه، أو يتنازل عن مواقفه.

 

وفي هذا الخصوص يورد منصور قصة عن مبادئ العقاد الحاسمة والواضحة، مفادها أنه رفض مقابلة مندوب لدار نشر غير مصرية كانت تريد التعاقد معه على نشر بعض كتبه في بلـدان آسيا الإسـلامية مقابـل آلاف الجنيهـات الإسترلينية، وهـو رقـم فلكـي في تلـك السنوات، وجاء رفض العقاد مقابلة الرجل لأنه تأخر عن موعده نحـواً مـن عشـر دقائق، بعد أن كان العقاد قد توقف عن نشاطه وارتدى ملابسه وجلس في صـالون بيته في انتظاره! وقال العقاد لابن أخيه إذا جاء الرجل فقابله أنت واعتذر له عن أي تعاقد، لأن الذي لا يحترم مواعيـده لا يمكننـي أن أتفـق معـه عـلى شـيء!

 

وإليكم معلومة أخـرى تأتينـا عـن العقـاد الإنسـان، والعقـاد الكبيـر القلب، فنعجب لها أشد العجب، لأنها تتعلق بفترات من حياته كانت أحواله المالية تتيسر نسبيا بالمقارنة بفترات العوز والضيق، فإذا بنا نكتشف أنه بـدلا مـن أن يسـتغلها لكي يعيش بالطول وبالعرض ويعوض أيام الحرمان والمعاناة، يتجه إلى إنفاق مـا يفيض عن حاجته لسد عوز أسر بعض أصدقائه ممن تبدلت أحوالهم وعـرف هـو أن الدهر أخنى عليهم وأنهم باتوا في فاقة مؤلمة وفقر شديد! . يقول الأستاذ أنيس منصور: "لم تكن للعقاد موارد كثيرة، والذي كـان يتقاضـاه كان يشتري به الكتب، وما تبقى ينفقه على عشرين أسـرة صـديقة فقيـرة، وعنـدما مات العقاد وجدنا في خزانته الخالية أسماء الأصدقاء الـذين مـال علـيهم الـزمن وحاول العقاد أن يحميهم من الهوان .

 

ثم يروي لنا الكاتب واقعة غير معروفة على نطاق واسـع، مـع أنها مهمة جدا وذات دلالة كبيرة، وهي أن الملك فاروق، في سنوات حكمه الأولى على ما يبدو، وكـان شـابا ًصـغيراً قليل الخبرة زار العقاد زيارة غير معلنة في بيته بمصر الجديدة بصحبة عـلي ماهر رئيس الوزراء لكي يستفيد من نصائح العقـاد وخبراتـه، وبـالرغم ممـا كـان العقاد قاله عن أبيه من قبل ودخل السجن بسببه!

 

إلى ذلك، يورد الكاتب شكري قول لأحد المفكرين والقياديين الإسلاميين في مصر وهو د. ناجح إبراهيم الذي قال:" إنني الآن أقر وأعترف أن الحركة الإسلامية المصرية خاصة والعربية عامة قد قصرت في حق العقاد وأهملته وبخسته حقه. ولم تحدث أبناءها يوماً عنـه ولا عـن دفاعه العظيم عن الإسلام في أوقات عصيبة في الوقت الذي تثنى الحركة فيه صباح مساءً وبداعٍ وبغير داعٍ على بعـض قادتهـا الحـركيين الـذين لم يقـدموا للإسـلام أو الفكر أو الفقه الإسلامي أو للأجيال القادمة جديداً في علوم الإسلام".

 

ويضيف" لقد تأملت حالة معظم الحركات الإسلامية فلم أجد حركة واحدة في أي قطر من أقطار الإسلام قررت كتابا ً واحداً للعقاد على أبنائها رغـم عظمـة هـذه الكتـب وإشادة الجميع بها. ولم تقرر حتى عبقرية من عبقرياتـه مثـل عبقريـة الصـديق أو خالد أو محمد صلى الله عليه وسلم أو عبقرية المسيح أو عثمـان "ذو النـورين" أو عبقرية الإمام على بن أبى طالب أو عبقرية معاوية، في الوقـت الـذى قـررت عـلى أبنائها كتبا لبعض قادتها الحـركيين أو دعاتهـا المبتـدئين لا يتسـاوى أحـدهم مـع بعض تلاميذ العقاد".

 

ومن الذين أشادوا بالعقاد رغم ما كان بينهم من خصومة وعداوة فكرية الرافعي، إذ قيل عنه أنه" يكره العقاد ولكنه يحترمه، يكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصـاف لغيـره ..." "ويحترمـه لأنه أديب قد استملك أداة الأدب وباحث قد استكمل عُدة البحـث قصـر عمـره وجهد على القراءة والكتابة، فلا ّ ينفك بين كتاب وقلم".

 

ويشير الصديق " أبو شكري" إلى تراث العقاد الفكري والمعرفي، فيرى أن الإحاطة الكاملة بكل ما يتعلق بالعقاد شبه مستحيلة، ولابد أن يفطن الناس إلى أن ما يتعلق بالأستاذ العقاد، من حيث ما كتبه أو قاله، ومن حيث ما صدر عنه، ومن حيث نشاطه الإنساني والحيـاتي (إذا جاز التعبير)، على مدى حياته كلها، شيء ٌ ضخم جداً ومتشعب جـداً وهائـل جـداً أكثر مما يظن أي إنسان، بل ويكاد يستعصـي عـلى الحصـر الكامـل والاستقصـاء، وهذا شأن العباقرة الأفذاذ، وقد كان الأستاذ العقاد عبقريا بالغ الثراء، ومثير للجدل في آن.

 

ويوضح شكري " وحسـبنا أن نشير إلى ذلك الكم الهائل من الكتب والدراسـات التـي كتبـت عنـه وعـن آثـاره، وأطروحــات الماجســتير والــدكتوراه في جامعــات مصــر والعــالم، ومــداخل الموسوعات، والتي لم تستنفد كلها القول حتى الآن فيما تستحقه حياته وأعماله. ونعتقد أننا إذا قلنا إننا اقتصرنا في كتابنا هذا على نحو واحد على مائة فقـط ممـا وجدناه من معلومات عن الأستاذ العقاد في المصادر والمظان المختلفة لماكنا قد جانبنا الصواب، فنحن مقيدون في نهاية الأمـر بكتـابٍ محـدود الحجـم، محـدود الصفحات إذا قسناه بحجم التحدي المتمثـل في جبـل هائـل أو فضـاء فسـيح أو العَلـم الكبيـر الخالـد في ثقافتنـا العربيـة.

 

ونأتي إلى بعض طرائف أو قصص العقاد التي يوردها شكري، ومنها يقال إن أحد الأدباء، ولعله الشاعر الكبير الأستاذ صـالح جـودت، وهـو من محبي العقاد، أبدى استغرابه عنـدما وجـد الأسـتاذ العقـاد ذات يـوم ممسـكا بكتاب عن حياة الممثلة (بريجيـت بـاردو)! وقـال لـه: أنـت يـا أستاذ تقرأ عـن بريجيت باردو؟ ومعروف أنها كانت نجمة الإغراء عند بـدء ظهورهـا في السـينما الفرنسية، وكان ذلك في سنوات العقاد الأخيرة من حياتـه، فأجابـه العقـاد − فيمـا يروون – بما معناه أن علينا أن نقرأ حتى في التفاهة حتى نفهمها ونحتاط منها.

 

وكذلك، أن الأستاذ العقاد كـان لا تستعصـي عليـه كلمـة في المعجـم الإنجليزي، وأنه كان يكاد يستظهر دائـرة المعـارف البريطانيـة اسـتظهارا، وربمـا موسوعات أخرى، وأنه الرجل الذي قرأ في حياته ستين ألـف كتـاب، وقيـل مائـة ألف كتاب، وعن مكتبته قال الأستاذ أنيس منصور إن مكتبة الأستاذ العقاد لم تكـن ضخمة جدا من حيث عدد الكتب إذا قورنت بمكتبات آخرين من المشاهير، فقـد بلغت عند رحيله نحواً من خمسة وأربعين ألف كتاب ولكنهـا − والكـلام للأستاذ أنيس− كانـت منتقاة بعناية في محتوياتها.

 

وفي قصة أخرى، كان العقاد شجاعا في الحق − كما يقـول الأسـتاذ أنـيس منصـور -كان العقاد رجلاً، ففي أيام عبد الناصر كان يقول: "إن الإنسان لن يحاسبه الله على مـا اقتـرف في هـذه الدنيا، إذ يكفيه ً عذابا أنه عاش في زمن جمال عبد الناصر".

 

إلى ذلك، فقد ذكر الأستاذ أنيس منصور غير مرة في لقاءات إذاعية أن الأستاذ العقاد كان لديه مشروع يرغب في أن ينجزه ولكن الأجل لم يسعفه، وهو كتابـة تفسـير للقـرآن الكريم، وقال الأستاذ أنيس إنه كان يتمنى أن تتاح الفرصة للأستاذ العقـاد لإنجـاز هذا المشروع، لأنه− في رأيه− كان من شأنه أن يكون من أبدع ما يمكن أن نتصـور في مجال تفسير القـرآن، لأن العقـاد كـان سيضـع فيـه خلاصـة خبراتـه الواسـعة ومعارفه العميقة المتشـعبة في علـوم الـدين واللغـة والبلاغـة والفلسـفة والعلـوم الطبيعية والكونية والتاريخ ومقارنة الأديان. والحقيقة أننا لم تفـدنا المصـادر التـي تحت أيدينا في تأكيد هذا الأمر أو نفيـه، ولكننـا نسـتبعد أن يكـون الأسـتاذ أنـيس منصور قد ذكر ذلك من دون أن يكون قد سمعه من الأستاذ أو من بعض أصـدقائه المقربين إليه.

 

في الخلاصة، نشيد ونثمن عمل الصديق الكاتب معتز شكري، الذي أحب العقاد وأخلص لفكره ومبادئه عبر كتاب كبير ينوف عن 330 صفحة. كتاب خصب في معلوماته، موضوعي في مضمونه، شيق في أسلوبه، ممتع في قراءته. شكراً للصديق النقي والمخلص للعلم وأهله " أبو شكري". وخير ما ننهي به، كلامنا هنا، ما جاء في الكتاب من نصيحة للعقاد وهي: فكر في واجبك كما تفكر في حقك، وأعمل طلباً للإتقـان لا طلباً للشهرة والجزاء، ولا تنتظر من الناس أكثر مما يحق للناس أن ينتظروه منك.