من وحي الرياضة

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

انتهت مسابقة الأمم الآسيوية بتتويج قطر بطلاً للقارة الكبيرة لأول مرة في تاريخها. 
وللمرة الثانية شارك منتخب فلسطين في المسابقة. ولأول مرة أتابع مباريات "الفدائي" التي خرج منها من الدور الأول بعد أن تعادل مع المنتخب السوري وخسر أمام المنتخب الأسترالي وتعادل مع المنتخب الأردني، وكاد يتأهل ضمن أفضل ثلاث مجموعات لولا نتائج المجموعات الأخرى. وربما كان الأمر سيكون أكثر متعة لو نجح الفريق الوطني في اجتياز عتبة الدور الأول إلى دور الـ16 وبالتالي تحقيق إنجاز وطني يعتد به، أو لو أنه حقق فوزاً واحداً في الدور الأول. الكثير من الطموح كان يكفي لأن يتحقق بعض الآمال. 
فلسطين لم تعد غائبة عن الخارطة؛ فهي موجودة في مثل هذا المحفل الرياضي المهم، وربما أن هذا هو الأساس: أن تكون فلسطين على الخارطة. فلسطين التي أريد لها أن تختفي عن الخارطة وكان يراد لها أن تصبح نسياً منسياً بعد أن يتم محوها بشكل كامل عن الخارطة، تفرض نفسها بقوة رغم كل جبروت من أراد محوها. 
فلسطين تلعب في القارة الآسيوية وتتأهل للتصفيات فيما الكيان الذي أراد قوى الشر والاستعمار أن تحله مكان فلسطين ولا ينتسب للجغرافيا حتى بل إنها نسبته لقارتها – أوروبا - لا يتأهل للعب في تصفيات القارة العجوز. 
ليس أن فلسطين ابنة الجغرافيا، وليس أنها وليدة التاريخ الذي صاغ وجه الأرض، وليس أنها وجدت مع حبات الرمل التي كونت تلك الأرض، بل لأنه، أيضاً وإلى جانب كل ذلك، الاستمرار الطبيعي للحياة هناك. 
الخارطة التي كان يجب أن تصبح فلسطين ضحيتها الأولى لم تعد كذلك. فها هي تعود، لا تترك فرصة إلا لتقول إنها موجودة شاء من شاء وأبى من أبي. 
لا تكتمل الخارطة بلا فلسطين. أتذكر حين كنت ضمن وفد صحافي في زيارة لمقر الأمم المتحدة وكان العاملون في مكتب الأمين العام وكان وقتذاك كوفي عنان يأخذوننا في جولة داخل أروقة المبنى الأشهر في العالم كان ثمة مجموعة خرائط في أحد الممرات توضح تاريخ الصراع في الشرق الأوسط. 
توقفت وأنا أشير لأحد مساعدي الأمين العام، وأظنه الدبلوماسي والروائي الهندي شاشي ثارور، كيف تغيرت الخارطة في الشرق الأوسط، وكيف كان ثمة شيء اسمه فلسطين كما كان موضحاً في خارطة بداية القرن العشرين قبل الحرب العالمية الثانية وكيف بفعل قرارات الجمعية العامة الجائرة وعلى رأسها قرار التقسيم وقبله وعد بلفور المشؤوم، بدأت تنكمش فلسطين عن الخارطة وصارت تصغر وتصغر حتى لم يبق منها إلا مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، التي يبخل العالم على الفلسطينيين أن يمنحهم فيها دولة. 
مر وقت حتى بات هناك شيء في الأمم المتحدة اسمه فلسطين. إنها اللحظة المشحونة بالعواطف حين رفع الرئيس محمود عباس علم فلسطين إلى جانب أعلام تلك الدول التي ذبحت فلسطين بدم بارد. 
هواجس كثيرة انتابتني وأنا أشاهد مباريات فلسطين في أمم آسيا. فلسطين لم تعد ضحية الخارطة. صحيح أنها لم تتعاف من جروح الماضي التي التهمت البلاد وشردت العباد، لكنها لم تصبح نسياً منسيا. 
لم يعد الشعب الفلسطيني مجرد ذكريات مؤلمة عن جرائم وأخطاء المستعمر ربما يتم التكفير عنها من خلال التذكارات والمتاحف. 
خلال تلك الزيارة للأمم المتحدة زرنا متحفاً حول حضارة الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين. المستعمر والقاتل يتذكر ضحيته ويحاول أن يخلد ذكراها لا لتمجيدها بل في محاولة للتكفير عن ذنوبه. لم يستمع أحد لخطبة الهندي الأخير ولا السيد تدبر وتفكر في المعاني. 
الفلسطيني لم يختف بعد النكبة. عاد مرة أخرة بفعل الثورة الفلسطينية وبفعل كفاحه البطولي عاد مرة أخرى إلى المشهد. 
نضال وكفاح باهظان. في المحصلة نجح خلالهما في أن يستعيد بعضاً من حضوره. 
مر زمن يمكن لأجدادنا أن يستعيدوه بمرارة، وسجلوه بمرارة أيضاً عبر المذكرات وعبر الشعر والرواية. 
الزمن المكسور الذي تمت خلاله محاولة النسيان المزدوجة حيث ينسى العالم الشعب الذي تمت التضحية بآماله أمام ظلم مؤسساته الدولية، وحيث لا ينسى الفلسطيني كل ذلك، بل يظل يتذكره. 
لا يريد أن ينسى، يريد أن يتذكر. لم يخل المسرح من الفلسطيني حتى وإن تم إعدام كل من حاول أن يؤدي دوره لأن الفلسطيني قفز على الخشبة وخلال كل ذلك ظل الزمن فلسطينياً بامتياز.
صحيح أن فلسطين لم تفعل الكثير في المسابقة الأهم آسيوياً، لكنها رغم ذلك موجودة. صحيح أن الأداء لم يكن مقنعاً لكننا حاضرون رغم كل شيء. 
أمم كثيرة ودولة استقلت فيما كانت فلسطين تذبح، بل إن بعضها كان عضواً في المؤسسة الدولية حين تم ذبح فلسطين، لكنها لا تتأهل إلى مثل تلك البطولات، لكن فلسطين تفعل. فلسطين حاضرة. بعض الخيبة وبعض الانكسار خاصة بعد مباراة أستراليا المؤلمة، ومع هذا فثمة فرح خفي أننا هناك. 
بات لنا فريق وطني نطلق عليه ما نطلق على أبطالنا الذين يقدمون أرواحهم من أجل أن نبقى: الفدائي. فمهمة الفلسطيني الأولى والأساسية أن تظل فلسطين حاضرة. هذه كانت فلسفة الثورة الفلسطينية في كل محطاتها، فلسطين يجب ألا تختفي عن الخارطة؛ لأن مجرد بقائها هو هزيمة للمشروع الكولونيالي الإحلالي.كلام بسيط تجسده مباراة كرة قدم حتى وإن خسرناها. 
يرتبط حضور الفلسطيني بغيابه المفترض عن الخارطة. إنها ثنائية الحضور والغياب الذي عاتبه درويش كثيراً.
كانت أول انطولوجيا شعرية تضم شعر محمود درويش وسميح القاسم إلى جانب الشاعر العربي السوري أدونيس مترجماً إلى الإنجليزية بعنوان "ضحايا الخريطة" من تحرير عبد الله الأظهري أعادت دار الساقي في لندن طباعتها.