بعد 12 عامًا على انتخابه، قامت المحكمة الدستورية، المختلف على قانونيتها وشرعيتها والمطعون فيها، باتخاذ قرار استشاري بحل المجلس التشريعي، المؤسسة المنتخبة التي لم تتمكن من العمل. كما تضمن القرار الدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية خلال ستة أشهر. وعلى إثر ذلك، قام الرئيس محمود عباس بحل المجلس التشريعي، وقامت اللجنة المركزية لحركة فتح التي يرأسها الرئيس بتشكيل لجنة من أعضائها للتشاور مع فصائل منظمة التحرير وشخصيات مستقلة بشأن تشكيل حكومة فصائلية، في ذات الوقت الذي قدمت حكومة رامي الحمد الله استقالتها، وقبلها الرئيس عباس على الفور.
الملاحظ أن الرئيس اتخذ القرارات وصادقت عليها حركة فتح من دون الرجوع إلى اللجنة التنفيذية للمنظمة، ولا إلى الفصائل والشخصيات التي جرى التشاور معها، أي جرى وضعهم أمام أمر واقع لم يشاركوا في خلقه، وعوملوا كملحقين، أو بالأصح كمجرد ديكور إذا وافقوا، ورأيهم لن يغير في الأمر شيئًا إذا اختلفوا، بدليل أن قيادات بارزة في "فتح" صرحت بأنها ستمضي في قرار تشكيل الحكومة الفصائلية، ولو بمشاركة "فتح" وحدها، لا سيما بعد اتخاذ الجبهتين الشعبية والديمقراطية قرارهما بعدم المشاركة، في حين أن حزب فدا والمبادرة الوطنية وحزب الشعب لم يتخذوا القرار النهائي، مع أن التوجه العام، خصوصًا عند فدا والمبادرة هي المقاطعة.
يذكر أن أربعة فصائل صغيرة جدًا وافقت على المشاركة رغم أن اقتصار المشاركة الفصائلية عليها لن يضيف لها شيئًا مهمًا، ولن يغير من حقيقة أن الحكومة القادمة إذا شكلت ستكون حكومة فتحاوية مطعمة ببعض الفصائل الصغيرة والمستقلين.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اتخذت هذه القرارات الآن؟
السبب الأول: لإعلان نهاية عهد حكومة التوافق بعد أن فشلت محاولات تمكينها من الحكم في قطاع غزة.
السبب الثاني: لإعلان فشل جهود المصالحة وفك الارتباط مع حركة حماس، والبدء بتطبيق خطة "إما أو"، التي تستهدف تحميل سلطة الأمر الواقع التي تحكم القطاع كامل المسؤولية. فلعل وعسى تنجح هذه الخطة بإسقاط حكم "حماس" وتوحيد السلطة في الضفة والقطاع .
السبب الثالث: التخلص من العپء الذي سببته حكومة الحمد الله: فساد، عقوبات على غزة، ضرائب، عدم مواجهة قوات الاحتلال التي استباحت أراضي السلطة، تسريب الأراضي والممتلكات، خصوصًا في القدس، عجز الموازنة المتزايد. ووصل هذا العبء إلى مرحلة خطيرة تنذر بالعصيان المدني على خلفية رفض الأغلبية لقانون الضمان الاجتماعي.
السبب الرابع: رغبة "فتح" في لعب دور أكبر في السلطة، خصوصًا بعد أن جرى تهميشها، لا سيما في السنوات الأخيرة.
السبب الخامس، وهو الأهم: إغلاق ملف "التشريعي" بكل أبعاده، خصوصًا لجهة الاستعداد لاحتمال شغور منصب الرئيس في ظل الاختلاف المحتمل جدًا حول كيفية ملء الفراغ خلال المرحلة الانتقالية، حيث تتمسك "حماس" بما ورد في القانون الأساسي حول أن رئيس المجلس التشريعي يتولى الرئاسة لمدة ستين يومًا تجرى خلالها الانتخابات الرئاسية، بينما ترى "فتح" بأن المجلس غير فاعل ولا منعقد، ولذلك يمكن أن تملأ منظمة التحرير الفراغ بوصفها المرجعية العليا في النظام السياسي ومنشئة السلطة، فضلًا عن أن "فتح" تريد تجريد "حماس" من الشرعية المترتبة على حصولها على الأغلبية في "التشريعي"، ما أعطاها هامشًا للحركة دوليًا، إضافة إلى التخلص مما تبقى من أعباء مالية، حيث لا تصرف رواتب أعضاء المجلس التشريعي من كتلة التغيير والإصلاح الغزيين منذ وقوع الانقسام، وكذلك النواب عن كتلة محمد دحلان، وحتى بعد حل "التشريعي" لم تصرف الرواتب التقاعدية لنواب "حماس" وكتلة دحلان.
السبب السادس والأخير: الاستعداد للتحديات القادمة، لا سيما في ظل الحديث عن طرح "صفقة ترامب".
الملاحظات على هذه القرارات
الملاحظة الأولى: أنها تقضي على المؤسسة المنتخبة بشكل غير دستوري مع أن بالإمكان التخلي عنها بشكل قانوني، وبحيث تكون محل قبول وتوافق وطني، إذا كانت هناك نية حقيقية لإجراء الانتخابات، وذلك عبر الدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، وعندها تجدد الشرعيات كلها، ويتم التخلص من المجلس التشريعي المعطل منذ انتخابه تقريبًا.
الملاحظة الثانية: أن هذه القرارات تغلق الطريق على الجهود، وخاصة المصرية، الرامية إلى إنهاء الانقسام، الأمر الذي سيفاقم الموقف، ويؤدي إلى تعميق الانقسام، وتسريع تحوله إلى انفصال يؤسس لسلطة فتحاوية في الضفة الغربية، وأخرى حمساوية في قطاع غزة، وسيكون الشغل الشاغل لكل منهما كيفية المحافظة على النفس، أما مواجهة الاحتلال والتحديات الأخرى فلن تكون من ضمن أول الأولويات.
الملاحظة الثالثة: أن هذه القرارات تتركز على السلطة ولا تتعلق بالمنظمة، ما سيؤثر سلبًا بشدة على مطلب إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، الأمر الذي سيكون له الأولوية، أو على الأقل يجب أن يكون ضمن قائمة الأولويات.
الملاحظة الرابعة: أن هذه القرارات تحرف الأنظار عما هو مطلوب لجهة ضرورة إعادة النظر في طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، وعلاقتها بالمنظمة لتصبح أداة بيد المنظمة الموحدة، وسلطة إدارية خدمية لخدمة برنامج دحر الاحتلال وتحقيق الحرية والسيادة والاستقلال، وذلك في ضوء فشل اتفاق أوسلو وانهيار ما يسمى "عملية السلام" ومساعي إسرائيل والولايات المتحدة لإنهاء ما تبقى من دور سياسي للسلطة، وتحويلها إلى سلطة وظيفية إدارية بالكامل في المعازل الآهلة بالسكان بالضفة من دون القدس وقطاع غزة، تمهيدًا لاستكمال فصل الضفة عن القطاع، و لفرض السلام الاقتصادي الذي لا مكان فيه لأي حق من الحقوق الوطنية الفلسطينية.
الملاحظة الرابعة: إن تشكيل حكومة فصائلية لا تشارك فيها فصائل تستحق هذا الاسم سوى "فتح"، من شأنه تكريس نظام الكوتا (المحاصصة الفصائلية)، ما يضعف المجتمع المدني بدلًا من دعمه وتعزيز حضوره، خصوصًا في ظل تراجع خطير في دور الأحزاب والفصائل، وتقدم متزايد لدور العائلية والعشائرية والفردية والمحلية والجهوية.
الملاحظة الخامسة: إن الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية فقط، وإسقاط الانتخابات الرئاسية والمجلس الوطني، المترافق مع رفض مشاركة "حماس" في الحكومة المزمع تشكيلها بذريعة أن مشاركتها تشرعن الانقسام وتعمقه وتديره، تتم في نفس الوقت الذي تدعى فيه "حماس" للمشاركة في الانتخابات عبر تشكيل قائمة مشتركة مع "فتح" ومن يرغب من الفصائل، مع أنها ستبقى أثناء الانتخابات على الأقل تحكم غزة، وكأن هذا لا يشرعن الانقسام.
يعكس هذا التناقض تخبطًا وعدم انسجام ودرجة واسعة من اللامعقول، كما يعكس عدم جدية في إجراء الانتخابات.
إن إجراء الانتخابات من دون توفير متطلبات أن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها ومنسجمة مع طبيعة المرحلة كمرحلة تحرر وطني، والتعامل معها كجزء من المعركة ضد الاحتلال، ستكون قفزة في المجهول، وستعمق الانقسام. كما أن الانتخابات إذا جرت من دون القدس وقطاع غزة ومن دون مشاركة حماس والجهاد وغيرهما من الفصائل؛ فلن تعكس إرادة الشعب، ولن تضفي أي شرعية.
على الرغم من كل ما تقدم، يمكن تسجيل الكثير على بدعة المشاورات على تشكيل الحكومة من لجنة فتحاوية وليس من رئيس حكومة مكلف بتشكيلها، أهمها أن الحكومة العتيدة من غير المعروف شكلها، وبرنامجها (على الأقل الخطوط الموجهة لعمل الحكومة)، وعلاقتها بالسلطة والمنظمة، وتوقيت الإعلان عنها. أي باختصار لا يوجد ما يوجب التشاور حوله.
إن عدم مشاركة الجبهتين الشعبية والديمقراطية في الحكومة المزمع تشكيلها يختلف عن مقاطعة "الشعبية" لكل الحكومات السابقة، ومقاطعة الجبهة الديمقراطية لمعظمها، كون هذه المقاطعة تحدث في ظروف استثنائية، كون الوضع الآن يختلف عن السابق حين كانت تحظى "فتح" بأغلبية كبيرة سياسية وشعبية وبرلمانية من دون منافس.
أما الآن، فهناك منافس قوي لـ"فتح"، وهو حركة حماس، ما يعني أن مقاطعة الجبهتين مع عدم دعوة حركتي حماس والجهاد للمشاركة، واحتمال كبير لمقاطعة فدا والمبادرة وحزب الشعب، فهذا يعني أن الحكومة القادمة ستكون معزولة. وهناك سؤال كبير عن مدى شرعيتها، وبالتالي كيف يمكن لها الإشراف على إجراء الانتخابات، وكيف يمكن مشاركة قطاع غزة كون التمثيل النسبي لا يحل هذه المسألة، فالانتخابات لن تكون شرعية إذا لم يكن الناخبون الغزيون أحرارًا وقادرين على التصويت فيها؟
شكل الحكومة وبرنامجها وتوقيت الإعلان عنها
من حيث الشكل ليس محسومًا تمامًا ذلك، فهل ستكون فصائلية أم حكومة كفاءات يشارك فيها ممثلو فصائل؟ وهل سيرأسها عضو في اللجنة المركزية أم شخصية مستقلة مقربة من الرئيس؟ وهناك فرق بين هذا وذاك، فإن ترأسها عضو في اللجنة المركزية، فهذا يعني أنها ستكون فتحاوية شكلًا ومضمونًا، وهذا سيغير علاقات القوة الداخلية في السلطة والحكومة، حيث تراجع دور فتح وتقدم دور أفراد وشرائح لا تنتمي إليها، وهي أبعد عن المضمون السياسي الذي مثلته "فتح" والمنظمة، وأكثر تحررًا في التجاوب أو التعايش مع الواقع الجديد السيئ الجاري خلقه على الأرض.
بكل أسف، هناك العديد من الشخصيات المستقلة، وخاصة من أصحاب الكفاءة، تتعامل مع نفسها كخبراء وفنيين واستشاريين، وليس كمواطنين ووطنيين لديهم رسالة وبرنامج وطني يسعون لتحقيقه. فمن المهم الآن رفض حكومة تكرس الانقسام وتسعى لإعلان قطاع غزة إقليمًا متمردًا، ما يفتح الطريق لفرض المزيد من العقوبات الجماعية، ومن المفترض أن المستقلين الوطنيين ليسوا جاهزين للمشاركة في أي حكومة بغض النظر عن شكلها برنامجها وأهدافها وما يمكن أن تؤدي إليه.
يذكر أنه إذا جاءت الحكومة فتحاوية، ويرأسها فتحاوي، فلن يكون مرحبًا بها دوليًا، خصوصًا من الاتحاد الأوروبي، الداعم الأكبر للسلطة، الذي يفضّل حكومة الكفاءات على الحكومة الفتحاوية الفصائلية، وإذا كان لا بد فليكن الوزراء من أصحاب الكفاءة والخبرة، بمن فيهم من تقترحهم الفصائل.
وهنا لا بد من الإشارة إلى وجود معارضة فتحاوية لترؤس أحد أعضاء اللجنة المركزية للحكومة، على على خلفية أن ذلك سيعزز فرصه أو فرص آخر في الخلافة، وهذا محل معارضة من المتنافسين الآخرين على الخلافة.
أما من حيث المضمون، فليس واضحًا برنامج الحكومة القادمة. وهنا لا يكفي أن يقال أنها ستواجه التحديات الداخلية والخارجية، أو الادعاء بأنها ستنهي الانقسام من دون البرهنة كيف ستفعل ذلك، أو أنها ستجري الانتخابات من دون توفير متطلباتها. فالأمر الأهم والحاسم، كيف ستواجه التحديات، وبأي إجراءات وسياسات وأدوات وخطط ملموسة؟
هل ستكون الحكومة استمرارًا للحكومات السابقة، أم ستطبق قرارات المجلس الوطني حول نهاية المرحلة الانتقالية، وإعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال والتنسيق الأمني والعلاقات الاقتصادية والاعتراف بإسرائيل، أم ستبقى في دائرة الانتظار واعتماد سياسة ردة الفعل، بحيث تهدد بوقف التنسيق الأمني وتستمر به وكأن شيئًا لم يكن، في حين أن المطلوب منها وضع خطة متدرجة لجعل قرارات تطبيق المجلس الوطني ممكنة؟
كيف ستتعامل الحكومة القادمة مع الفساد المستشري والواسطة والمحسوبية والتضخم الإداري وعدم المساواة بين الرجال والنساء؟ وكيف ستتعامل مع قانون الضمان، وهل ستعيد استقلال القضاء؟ وكيف ستحارب الفقر والبطالة وتدهور التعليم والصحة، وتدعم الزراعة والصناعة والإنتاج وتعزيز مقومات الصمود على كل المستويات والأصعدة؟ وكيف ستتعامل مع الشباب والحقوق والحريات؟ وما خطتها لمواجهة الاحتلال ومخططاته، خصوصًا في القدس التي تجري عملية استكمال تهويدها وأسرلتها؟ وكيف ستتعامل مع العجز في الموازنة الحاصل والمحتمل، وكيف ستعيد هيكلتها؟ وكيف ستتصرف مع عمليات مصادرة الأراضي وتهويدها وبيعها، خصوصًا في القدس؟
أما من حيث علاقة الحكومة بالمنظمة، فهل ستكون حكومة المنظمة وسيكون لدينا برلمان دولة وليس مجلسًا تشريعيًا للسلطة، وقد يكون المجلس المركزي للمنظمة غير المنتخب هو البرلمان، تطبيقًا لتحويل السلطة إلى دولة، مثلما يطالب صائب عريقات، أم ستكون استمرارًا للحكومات السابقة ومحكومة بالالتزامات السابقة كما صرح الرئيس عباس في مناسبات عدة، خصوصًا في لقاءاته مع الإسرائيليين، وكما تدل الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية فقط لا برلمانية ولا رئاسية؟
أما من حيث توقيت إعلان الحكومة، فلا أحد يعرف بالضبط الجدول الزمني لإعلان الحكومة، فهل انتهت المشاورات التي أجرتها اللجنة الفتحاوية أم لا، وهل سينتظر الرئيس لكي يعرف ردود الأفعال الإسرائيلية والأميركية والأوروبية والعربية على الحكومة التي ينوي تشكيلها، وهل سيكلف الرئيس شخصًا بتكليف الحكومة أم لا، وهل سيكون من "فتح" أم من الشخصيات القريبة من الرئيس، أم هل تبقى حكومة رامي الحمد الله أسابيع أو شهورًا كحكومة تسيير أعمال، حتى إجراء الانتخابات الإسرائيلية والإعلان عن "خطة ترامب" التي يجري الحديث أنه سيُعلن عنها بعد الانتخابات الإسرائيلية وقبل تشكيل الحكومة الإسرائيلية، فهناك وهم يعتقد أصحابه بأنه أمل بأن تحمل الانتخابات الإسرائيلية بديلًا عن اليمين، مع أن ما قاله بيني غانتس ومن اختار معه في حزبه وتاريخه يدل بشكل قاطع أن البديل عن اليمين الحاكم في إسرائيل إذا كان قائمًا فهو يمين جديد لا يقل سوءًا عنه.
ما العمل؟
الجواب على سؤال ما العمل يجب أن يتضمن أولًا الإدراك أنه رغم كل ما يجمع ويوحد الشعب الفلسطيني وهو كثير جدًا وأكبر مما يفرقه، هناك ظروف وخصائص ومصالح تميز كل تجمع من تجمعاته، فظروف القطاع مختلفة عن ظروف الضفة وعن ظروف شعبنا في الداخل وعن ظروف تجمعات شعبنا في أماكن اللجوء. وهذا لا بد أن يؤخذ بالحسبان عند التخطيط للأهداف والأولويات والخطط لتنفيذها.
في ضوء ذلك، فإن العمل لا بد أن يكون في اتجاهين: الحفاظ على ما يوحد وتعزيزه، وعدم تجاهل ما يفرق.
أما بخصوص الانقسام، فلا بد من العمل كذلك في اتجاهين في نفس الوقت:
الاتجاه الأول: الاستمرار في جهود إنجاز الوحدة باعتبارها ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، مع أنها صعبة التحقق ما لم تطرأ متغيرات على توازن القوى الفلسطينية أو العربية أو الدولية، وعلى مختلف الأصعدة، وهذا يتطلب الحفاظ على الأمل والمساعي الرامية إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وإبقائها مستمرة وكأن العقبات الهائلة التي تعترضها غير موجودة، الأمر الذي يعني ضرورة تكرار الدعوة للأخذ بحل الرزمة الشاملة الذي لم يجرب مثلما جربت الانتخابات ولم تنجح، بل كانت منصة لوقوع الانقسام، وجربت حكومة وحدة وطنية بعد اتفاق مكة وانتهت بالاقتتال والانقسام، وكذلك جربت حكومة الوفاق الوطني وانتهت إلى ما نحن فيه، فحتى تنجح الحكومة لا بد من أن تكون جزءًا من حل شامل، وتكون لها مرجعية تحتكم إليها.
يقوم حل الرزمة الشاملة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب بحيث يخرج الجميع منتصرًا. ويهدف إلى معالجة كل الأمراض المزمنة في نفس الوقت، لأن إهمال بعضها والتركيز على مرض واحد يهدد حياة المريض بالخطر، وهو حل يطبق بالتوازي والتزامن، ويتضمن الاتفاق على آلية تطبيق ملزمة برعاية ورقابة فلسطينية وعربية ودولية.
كما يتضمن حل الرزمة الشاملة الشروع في حوار وطني شامل يهدف أولًا إلى الاتفاق على البرنامج السياسي، وخصوصًا على كيفية مواجهة وإحباط "صفقة ترامب"، وفصل الضفة عن القطاع، والتصدي لقانون "القومية" والمشاريع الاستعمارية الاستيطانية الرامية إلى تهويد وضم معظم الضفة، وإحباط محاولات استكمال تحويل السلطة إلى سلطة وظيفية بالكامل من دون أي دور سياسي.
ومثلما سيلتزم البرنامج بالحقوق والأهداف الوطنية لا بد من أين يتسلح بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية حتى لا يعزل الفلسطينيون وتقاطع مؤسساتهم، ولكي يتمكنوا من توظيف المجتمع الدولي لصالح القضية، على المستوى الرسمي وعلى مستوى الرأي العام العالمي المؤيد بأغلبيته للحقوق الفلسطينية.
كما يتضمن حل الرزمة كذلك الاتفاق على أسس الشراكة بما ينسجم مع مرحلة التحرر الوطني وقانون الجبهة الوطنية والديمقراطية التوافقية، وبما يعني أن مختلف القوى ستشارك في المنظمة والسلطة وفق ما تحصل عليه بالانتخابات ما دامت ممكنة، ووفق معايير موضوعية يتم التوافق الوطني عليها عند تعذر الانتخابات، مثل حصول كل تنظيم عند تمثيله ما يتناسب مع وزنه كما يظهر ويستدل على ذلك في نتائح انتخابات الاتحادات الشعبية والنقابات والجامعات والبلديات والجمعيات الخيرية ... إلخ، إضافة إلى عدد المعتقلين والشهداء والجرحى.
كما تشمل الرزمة الشاملة الاتفاق على كيفية إعادة بناء مؤسسات المنظمة بصورة تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، بحيث تعمل على توحيد المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية على أسس مهنية وطنية، وتوحيد الأجنحة العسكرية للمقاومة في جيش واحد، أو إيجاد مرجعية وطنية واحدة لها تخضع للقيادة الموحدة والإستراتيجية المتفق عليها، إضافة إلى إعادة بناء الهيكل الوظيفي للسلطة من جديد على أسس تلبي الاحتياجات والمصالح والأولويات الفلسطينية، لا هذا التنظيم أو ذاك، وتتويجًا لما سبق يتم إجراء انتخابات على كل المستويات والقطاعات، محلية وعامة، تتعلق بالمنظمة أو السلطة/الدولة .
الاتجاه الثاني: العمل وكأن الانقسام باقٍ للأبد، والعمل في ظله بهدف تقليل أضراره وإبقاء الأفق مفتوحًا لإنهائه، ومنع تفاقمه وتحوله إلى انفصال بإصدار قرارات وعقوبات جديدة، ومعالجة قطع أو تخفيض الراتب أو الإحالة القسرية على التقاعد، إضافة إلى احترام حقوق وحريات الإنسان، ووقف التحريض الإعلامي المتبادل، وعدم إعادة تشكيل اللجنة الإدارية أو حكومة أو مجلس إنقاذ في غزة، فضلًا عن الاستعداد لإنهاء السيطرة الانفرادية لحماس على السلطة في القطاع وهيمنة الرئيس وفتح على النظام السياسي، بما يحقق شراكة كاملة في مختلف مؤسسات النظام السياسي.
في هذا السياق، يمكن الحفاظ على التعليم الموحد، وشهادة الثانوية العامة، والقضاء، والحج، والصحة، والكهرباء، وعودة الموظفين إلى معبر رفح، وغيرها من أواصر التعاون والعمل المشترك والحوار وتعزيزها وتوسيعها. ويمكن أن يساعد على ذلك الشروع في حوار وطني مستمر وتوسيع دائرة المشاركين فيه، مع العمل في نفس الوقت من (تحت لفوق) من دون إهمال العمل من (فوق لتحت).
فإذا جرت انتخابات للجامعات والجمعيات والنقابات في غزة وانتخابات بلدية فهذا مهم، وإذا جرى توحيد نقابة مثل الصحافيين فهذا مهم ايضًا ... وهكذا.
أخيرًا، يمكن الاستفادة من لقاء موسكو رغم أنه لا يحمل آفاقًا، وذلك من أجل توفير فرصة الحوار الذي لم يعقد منذ فترة طويلة رغم إعلان "فتح" أنها ستشارك في هذا اللقاء ليس من أجل الحوار ولا لقاء "حماس" والسعي لإنهاء الانقسام، وإنما تلبية لدعوة الأصدقاء الروس باعتباره ندوة حول "صفقة ترامب" والتحديات التي تواجه القضية الفلسطينية. ولو من هذا المدخل يمكن إحراز تقدم، لأن الاتفاق على كيفية مواجهة وإحباط صفقة القرن يمكن أن يفتح باب الوحدة المغلق بإحكام.
تأسيسًا على ما سبق، وفي ظل توقع عدم نجاح الجهود حاليًا ... يمكن تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة شخصية وازنة مقبولة من الجميع، وتختلف عن حكومات ما قبل حكومة الحمد الله وأفضل منها لجهة أن تأتي وفاقية بشكل أوضح، وتضم كفاءات وطنية مشهود لها، تعمل من أجل مواصلة الجهود لإنهاء الانقسام، ولحل المشاكل وليس إدارتها ومفاقمتها. كما تعمل على رفع العقوبات، وعدم اتخاذ عقوبات جديدة، إضافة إلى توفير متطلبات إجراء انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها.