عن هيئة التقاعد

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

من بين كل دول العالم وكياناته السياسية لا يوجد نظام تقاعد يشبه نظام التقاعد المعمول به في السلطة الوطنية الفلسطينية؛ وعبقرية هذا الاختلاف والتفرد لا تكمن في تميز هذا النظام، وتضمنه العديد من المزايا والإيجابيات؛ بل في كونه نظاما غير مفهوم، ومعقد بشكل يصعب شرحه، أو استيعابه.
خلال عمري الوظيفي الممتد على نحو ربع قرن من الزمان، مـرَّ عليَّ ما لا حصر له من حالات التقاعد لزملاء وأصدقاء.. وفي كل مـرة، لم أجد حالة تشبه الأخرى.. وحاليا، لو أنك قابلتَ أي موظف من موظفي السلطة وهو على رأس عمله، وسألته عن حقوقه التقاعدية؛ أي كم سيبلغ راتبه التقاعدي؟ وهل سيتقاضى مكافأة نهاية الخدمة؟ أم لا؟ وكم ستكون قيمتها؟ لن تجد موظفا واحدا لديه إجابات واضحة وصريحة. 
السبب في هذه الحيرة، وجود ما يقارب خمسة قوانين تنظم موضوع التقاعد، وقبل ذلك وجود أنظمة متعددة ومتباينة لموضوع الرواتب نفسه، وهذه المشكلة وجدت أساسا قبل قدوم السلطة، ثم تفاقمت وتعقدت بسبب وجود ما سمي حينها بِـ"مالية غزة"، و"مالية رام الله"، ووجود موظفين كانوا يعملون سابقا في الإدارة المدنية، أو في وزارات كانت تتبع الأردن، أو مصر، ثم تعيينات الموظفين "العائدين"، ثم تعيينات الخريجين الجدد.. ثم تغيير النظام المالي بعد إقرار قانون الخدمة المدنية، والتعديلات التي تمت عليه لاحقاً.. فضلا عن المشاكل الوظيفية التي نجمت عن الانقلاب، وما عُرف بتعيينات 2005، ومن تم تعيينهم في غزة من قِبَل "حماس"، والموظفين الغزيين الذين طلبت منهم حكومة السلطة الشرعية في رام الله البقاء في منازلهم، على خلفية الانقسام.. ثم خصم الرواتب لموظفي غزة، وما يطلق عليه بالعقوبات.
وإضافة لذلك، يخرج بين كل فترة وأخرى مشروع قانون للتقاعد المبكر، وكأنه موسم عروض، لإغراء بعض الموظفين على التقدم للتقاعد المبكر.. والقضية الأخطر، أن الحكومة منحت كل وزير، وكل رئيس هيئة صلاحية إحالة أي موظف إلى التقاعد المبكر، ودون إبداء الأسباب، ودون حق الموظف في الاعتراض.. وأظن أنّ ذلك يفتح المجال لممارسة التعسف بالسلطة، والتخلص من أي موظف "مشاغب"، أو "مزعج".. وطبعا جميعنا يعرف ماذا يمكن أن تعني كلمة "مشاغب"، أو "مزعج"، والتبرير المعهود: "لمصلحة العمل".  
هذا فضلا عن التباينات والتعقيدات المالية الموجودة في الأجهزة الأمنية، وقوانين التقاعد التي تحكمها. 
هذا ربما فيه دلالة عبقرية فذة، استطاعت تنظيم كل هذه الفوضى.. ولكن، لمَ لم تنجح هذه العبقرية في منع هذه الفوضى أساساً، وفرض نظام تقاعدي واحد، موحد، واضح، لا لُبس فيه ولا غموض؟؟  
مظهر آخر من مظاهر الفشل: بعد أن يصل الموظف سن التقاعد، وينهي آخر يوم له في العمل، سيمكث فترة لا تقل عن ثلاثة شهور دون راتب (وفي حالات عديدة تصل إلى أكثر من ذلك بكثير)!! صحيح أنه بعد ذلك، سيتقاضى ما فاته من راتبه التقاعدي بأثر رجعي، ولكن، لماذا عليه الانتظار كل هذه المدة؟ وهل من الضروري أن يمر كل موظف متقاعد في هذه المحنة؟ أن يضطر للاستدانة! والبهدلة! 
طالما أن تاريخ استحقاق التقاعد معروف لكل موظف (يوم عيد ميلاده الستين)؛ ما الذي يمنع إدارة شؤون الموظفين في كل وزارة وهيئة أن تنهي كل معاملاته البيروقراطية (براءة ذمة، وغيرها) في خلال الشهر الأخير من دوامه؟ بحيث لا يحتاج للتفرغ شهرا كاملا على أبواب الوزارات المختلفة لإنهاء معاملته؟ وطالما أن كل بيانات الموظف موجودة أصلا في سجلات وزارته، وفي سجلات وزارة المالية وديوان الموظفين، لماذا يحتاج كل هذه الأشهر لتحويل راتبه من بند موظف عادي إلى موظف متقاعد؟ من المفترض أن تكون هذه العملية بسيطة، وسريعة، ولا تحتاج سوى دقائق أو ساعة على أكثر تقدير؟ خاصة أننا في زمن الكمبيوترات والبيانات الرقمية والشبكات المتصلة مع بعضها عبر الإنترنت، ضمن برامج محوسبة معينة.
يعني الموضوع ليس صناعة غواصة، ولا يحتاج عبقرية.. يحتاج فقط احترام آدمية الموظف.
وبعيدا عن القوانين والبيروقراطية، هنالك حاجات معنوية بسيطة، حاجات إنسانية، سيكون الموظف المحال للتقاعد بأمسّ الحاجة لها.. هذا الموظف الذي أمضى زهرة شبابه في المؤسسة الحكومية، وخدَمها بعرقه وتعبه كل هذه السنين، وله فيها ذكريات حميمة، وتربطه بها أواصر عاطفية، وعلاقات اجتماعية، وصداقات، وزمالة عمل.. ألا يجدر بهذه الوزارة أن تكرم كل موظف يحال إلى التقاعد؟ قد تكون شهادة تقدير (مجرد كرتونة)، أو درع، أو حتى رسالة "إيميل" كافية معنويا بالنسبة للموظف. وطبعا هذا للأسف غير موجود.. كل ما يهم الوزارة أن ترث المكتب والأدوات التي كانت تخص الموظف الذي تم التخلص منه سريعا.
حتى زملاؤه في العمل لا يلتفتون إلى ذلك، ومن النادر أن يبادروا لتنظيم حفل صغير، من الممكن أن يبقى في ذاكرة الموظف حتى وفاته.. ذكرى طيبة من الزملاء والمكان الذي أمضى فيه أغلب حياته.. هذا يحصل (أحيانا) إذا كان الموظف في درجة وظيفية عالية، ومن الممكن أن نستفيد منه في موقعه الجديد، أما الموظف الفقير، فلا بواكي له! 
موضوع آخر ذو صلة: لماذا لا تتم الاستفادة من خبرات وقدرات الموظفين المتقاعدين؟ بعضهم على الأقل، لديه خبرات خاصة ونادرة ومهمة، مثلا من الممكن تشكيل مجالس استشارية معينة.. ومن ناحية ثانية أغلبية المتقاعدين لديهم الرغبة والقدرة على مواصلة العطاء بأشكال جديدة ومختلفة؟ وهنالك الكثير من الأفكار والمقترحات بهذا الشأن، وبعضها مطبق في دول عديدة حول العالم.
قبل الغوص في موضوع شائك ومعقد مثل "الضمان الاجتماعي"، من الأجدر معالجة وتصويب أوضاع قانون التقاعد.