إختراع القطع ثم صعوبة استنكاره

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

بقلم: عدلي ادق

 

صحيح إن رئيس السلطة محمود عباس، هو صاحب براءة اختراع التكتيك الإقصائي الشائن، بقطع رواتب الأسر لتجويعها  ورميها في غياهب الفقر والفاقة والحرمان. وصحيح أيضاً، إن المحتلين الأعداء، هم أصل المصائب كلها التي نزلت على رأس الشعب الفلسطيني؛ لكن الصحيح الأهم الذي لا مراء فيه، هو أن العدو، لم تكن لديه قبلاً، تكتيكات إقصائية، تتعلق بموضوع الخبز تحديداً. فقد كنا في السجون، نحن الذين نخوض طوعاً معارك الأمعاء الخاوية، لكي نضغط عليه بفضحه من خلال حال الجوع، لكي نظفر بتحسين شروط حياتنا في السجون على صعيد جوانب أخرى.

على الرغم من ذلك، فلا بد من النظر بخطورة الى قرار حكومة الاحتلال، القرصنة واقتطاع ما قيمته 139 مليون دولار في السنة من الأموال الفلسطينية التي يجبيها الإحتلال عبر "المقاصة" بهدف منع السلطة من صرف مخصصات من تبقت لهم مخصصات من بين الأسرى وذوي الشهداء. فهكذا قرار، يتمثل روح المستوطنين الأشرار المسلحين، الذين يُقرصنون في بلادنا ويقتلون ويعتدون على شعبنا، ويقطعون الأشجار ويستولون على الأراضي والمياه ويحتلون مفترقات الطرق ويتطفلون على المجتمع الفلسطيني. وهذه روحٌ إمبريالية ظلامية ذات مخاطر ممتدة، تتوغل في الزمن، ولها جذورها وتاريخها ومجتمعها ومشروعها. أما اقتطاعات عباس للرواتب ولمخصصات أسرى وذوي شهداء لا يستطيعون الوصول الى "المقاطعة" فهي ذات وضع مختلف، لأنها عابرة، ونبتة غريبة ليس لها ما يشبهها في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس لها مجتمع، بل إن مشروعها ــ بالمحصلة ــ هارب من المشهد قبل أن يهرب فعلاً.

صحيح إن عباس هو صاحب براءة اختراع قطع الأرزاق، لكن تجربته ومن معه، مقطوعة من التاريخ. فقد اخترعها رعديد يحسب كل صيحة عليه،  وجعلها استثناءً سلبياً مخالفاً لسياق التراحم التاريخي بين الفلسطينيين مهما اختلفت آراؤهم، وهذه تجربة لن تتكرر وسيُحاسب الضالعون فيها. لذا فإن التركيز الآن ينبغي أن يكون على القطع الإحتلالي، لأن العدو ينتعش  ويؤسس لبقائه وتمدد نفوذه في الإقليم الى الأبد، ولحرمان الشعب الفلسطيني الى الأبد، ولممارسة الجريمة الى الأبد، ولاستمرار السطو على كل الحقوق الفلسطينية الى الأبد!

المحزن والمؤسف، أن يجد الناطقون الفلسطينيون باسم عباس، صعوبة في التعبير عن استهجانهم القرصنة الإسرائيلية باستخدام مفردات أكل الحقوق وحرمان الأسر وتجويعها، والسطو على لقمة خبز الناس. فمخترع الشيء يصعب عليه استنكاره. وإسرائيل من جانبها، ليست في حاجة لمن يفسر لها تصريحاً كتصريح صائب عريقات الذي يلمّح فيه الى احتمال اتخاذ قرارات وصفها بــ "المصيرية والحاسمة" تتمخض عن اجتماعات ما تسمى   "اللجنة العليا لمتابعة توصيات المجلس المركزي". فتل أبيب تعلم الى أين تتجه الأمور والعقول في السلطة الفلسطينية، وتعلم ما الذي ستتمخض عنه اجتماعات أية لجنة قبل أن تجتمع، لأنها ــ ببساطة ــ ترصد اتجاهات أحاديث وقناعات جماعة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وتعرف رأي كل شخص، ولولا ذلك لما سمحت أصلاً باجتماعات "المجلس المركزي الفلسطيني" وبالتالي هي تدرك أن الصيغة التي تحدث بها عريقات ولمّح فيها الى فكرة حل السلطة كجواب على قرصنتها، المقصود بها حث الوسطاء في الإقليم والعالم على التدخل "لإنقاذ الوضع" وإبقاء السلطة. ففي المنظور الإسرائيلي يظل الهدف من خطوة الاقتطاع، القيام بمناورة لجلب الوسطاء، ثم يكون التوصل من خلالهم الى حل وسط، لتسجيل ما يشبه التراجعات الإسرائيلية التي تساعد في التغطية على تطرف حكومة نتنياهو في المسائل الأساسية وانتهاكاتها اليومية.

في هذا السياق، سيكون الحل الوسط،  بالنسبة للفلسطينيين ــ في أحسن الأحوال ــ أن يُصار الى تسديد مخصصات ذوي الشهداء والأسرى، من خلال عناوين أخرى، إغاثية أو إنسانية، شرط أن تطرح السلطة عن نفسها وتخصم من بين مهامها، واحدة من أهم مسؤوليات منظمة التحرير ذات البُعد الاجتماعي الموصول بمسؤوليتها السياسية، وهي المسؤولية التاريخية في رعاية أسر الشهداء والأسرى.

واللافت أن صائب عريقات، عندما أكد على عزم السلطة على الإستمرار في صرف مخصصات أسر الشهداء والجرحى، استبق الأمر ووقع في زلة اللسان،  إذ قال بتلقائية وبالحرف:"سنقطع عن أنفسنا ونعطيهم". وهذا معناه إما أن التدفق المالي على مجوعة الموالين والمحظيين، سيظل جارياً في حال الاقتطاع الإسرائيلي، وعندئذ ربما يضطر عريقات لأن يقتطع من نفسه ويعطي الأسر، أو إن أثرياء السلطة سيتولون الصرف من جيوبهم، وهذا هو المستبعد!

وهناك أمر ثانٍ مؤسف، لا ينكره إلا المكابرون، وهو أن التعاطف الشعبي الفلسطيني مع السلطة شبه معدوم، وهذه هي إحدى ننتائج الاستهتار بحقوق الناس وكرامتها ورأيها العام!