"الشمائل المحمدية" الدرس 03 - تجمله صلَّى الله عليه وسلَّم

"الشمائل المحمدية"  الدرس 03 - تجمله صلَّى الله عليه وسلَّم
حجم الخط

القدس _ وكالة خبر

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، وموضوع درس اليوم تجمُّله صلى الله عليه وسلَّم.
 فكان صلى الله عليه وسلَّم يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، ويأمرهم أن يكونوا بمظهرٍ حسن، وهذا يعني نظافة البدن، ونظافة الثوب، وترجيل الشعر، وقصَّ الأظافر، وأناقة الثياب، هذا هو التجمُّل، وكل إنسان يتجمَّل بقدر إيمانه، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، فقد روى البيهقي أنه كانت له حُلَّةٌ يلبسها للعيدين والجمعة.
 فبصراحة المؤمن الكامل له ثياب جديدة يرتديها في المناسبات، لأن المؤمن لا يمثل شخصه، بل يمثِّل هذا الدين الذي ينتمي إليه، فلا ينبغي أن يكون في ثيابه خطأ فاحش، ولا في ثيابه سبب للازدراء، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة، وثياب خاصَّة، الآن لابدَّ من ثياب في عقد قِران، وفي احتفال، وفي يوم العيد، وفي زيارة، وفي اجتماع، وفي مقابلة مع شخص، لأنك حينما تدخل على مجتمع، أو حينما تلتقي بإنسان، وأنت ساكت يقيِّمك من ثيابك، فإذا تكلَّمت نسي ثيابك، فإذا عاملته نسي كلامك.
 مظهر، ثم كلام، ثم معاملة، والمعاملة تنسي الكلام، والكلام ينسي الهَيْكَل، فإنسان أنيق تكلَّم كلمات بذيئة لا قيمة لأناقته، أذكر مرَّة إنسانًا يرتدي ثياب جميلة، وتكلَّم كلامً بذيئًا، فقال له واحد من وجهاء الأحياء: " إما أن تحكي مثل لباسك، أو تلبس مثل كلامك "، فلا يتناسب كلامك مع لباسك، إما أن تتكلَّم مثل لباسك، فلباسك أنيق فتتكلَّم كلامًا أنيقًا، وإما تلبس لباسًا مبتذلاً مثل كلامك المبتذل، فالمؤمن يمثِّل هذا الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك))

(كتاب السنة للمروزي(28) عن يزيد بن مرثد)

 فكل مؤمن صادق يشعر أنه يمثِّل هذا الدين، وسفير هذا الدين، واللِه الذي لا إله إلا هو ستحاسب من نظافة بدنك، ومن نظافة ثوبك، و من مواعيدك، ومن أمانتك، ومن دقة كلامك، سبحان الله ! المؤمن بالذات دائماً أعداء الدين يسلِّطون عليه الأضواء، فالأضواء الشديدة كلُّها مسلَّطة عليه، فإذا ارتكب صغيرةً أقاموا عليه القيامة، وأقاموا عليه النكير، فإذا أردت أن تكون سفيراً لهذا الدين فكن في المستوى اللائق، وقد ورد في الحديث القدسي:

((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه))

( من المأثور: عن " جبر بن عبد الله " )

 قصَّة سأرويها لكم: كنت أصلي صلاة المغرب إماماً في جامع النابلسي، وسيارتي بالمنطقة الصناعيَّة أريد أن أذهب لأستلمها ـ كانت بالتصليح ـ فصلَّى وراءنا أخ صاحب سيارة عمومي، قلت له: أتوصلني إلى المنطقة الصناعيَّة ؟ وقد صليت به إمامًا، كمد، واضطرب وارتبك، ماذا ذهب إلى ظنِّه ؟ أنني لن أعطيه أجرة، فلما حُرِج أوصلني على مضض، فكان المبلغ سبع عشرة ليرة، فناولته خمسة وعشرين، فصغر، فإذا كنتَ رجل دين تركب من غير أجرة ؟ تعطي أقل من حق الناس ؟ هكذا هو أخذ الفكرة، فعندما أعطيته ثلث المبلغ زيادة صغر..:

((كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام، اللهَ اللهَ لا يؤتى الإسلام من قبلك))

(كتاب السنة للمروزي(28)عن يزيد بن مرثد)

((إن هذا الدين ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه))

( من المأثور: عن " جبر بن عبد الله " )

 فأنت تمثِّل هذا الدين فكن سخيًّا، كريمًا، صادقًا، لأن كل الكلام لا قيمة له، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يتجمَّل، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلَّم له حلةٌ يلبسها للعيدين والجمعة، إذاً فواجب على كل واحد من إخواننا المؤمنين أن تكون له ثياب أنيقة، أنا لم أقل غالية، أنيقة، أي نظيفة، فإذا كان يلبس ثيابًا عاديَّة مكويَّة، نظيفة، فيها تناسب في الألوان، حتى إذا دُعي لعقد قران أو لاحتفال، قيل: فلان مؤمن، وثيابه مقبولة، فلا أطالبكم بثياب غالية الثمن، ولكن ثياب فيها شيء من الذوق، وشيء من النظافة.
 تروي السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم خرج ذات يومٍ إلى إخوانه، فنظر في كوز الماء ـ لم يكن وقتها مرآة - أين نظر ؟ في كوز الماء إلى جمَّته، أي إلى شعره وهيئته، فشيء لطيف من الإنسان قبل أن يخرج أنْ يقف أمام المرآة، يا ترى شعره منتظَم، وثيابه منتظمة، فيها خطأ، أو فيها شيء، فهذا من السُنَّة، قالت: خرج ذات يومٍ إلى إخوانه فنظر في كوز الماء إلى جمَّته ـ أي إلى شعره وهيئته.
 وقال عليه الصلاة و السلام:

((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))

( من مسند أحمد: عن " عبد الله بن مسعود " )

((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيأ في نفسه))

 أنا أحياناً واللهِ أعجب أنك كمسلم هل من الممكن أن تستقبل ضيفًا بالقميص الداخلي ـ الشيال ـ بالصيف ؟!! فهذه إهانة للضيف، وهذه ثياب مبتذلة لا يجوز أن تصلي بها، فكيف تستقبل بها الضيوف !! حتى في بيوت المسلمين من يقوم بالثوبين الداخليين فقط أمام أخواته البنات، أو أمام بناته، فهذا ليس من السنة في شيء.
 فلذلك عندما نظر النبي في كوز الماء إلى لمَّته ـ أي إلى شعره ـ وإلى هيئته قال:

((إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))

 و:

((إذا خرج أحدكم إلى إخوانه فليتهيَّأ في نفسه))

 فعلى الإنسان أنْ يغسل، ويرجِّل شعره، ويضع عطرًا، ويتأنَّق بثيابه، ويجعل هندامه مقبولاً، وسأقول لكم كلمة: أحياناً الإنسان ينطلق في حديثه إذا كانت ثيابه جيِّدة، فإذا كان في ثيابه خطأ اضطرب في حديثه، لأنّ الثياب الأنيقة تعطي الإنسان ثقة بالنفس، ولو دعي إنسان إلى عقد قران، وكانت ثيابه غير جيِّدة، تجده مرتبكًا، ومضطربًا، ومنكمشًا، ومتطامِنًا، لا، أنت مؤمن.
 والحقيقة هناك تعليق لطيف: الجمال في البساطة لا في التعقيد. وأحياناً تجد في الألوان تناسقًا، مع أن الشيء رخيص، والشيء الرخيص وفي ألوانه تناسق تجد فيه راحة نفسيَّة، فليس شرطاً أن ترتدي أغلى الثياب، إنما الشرط أن ترتدي ثياب مقبولة.
 وكان إذا قدِم عليه وفدٌ لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وفَدَ عليه وفد كِنْدَة وعليه حُلَّةٌ يمانيَّة، وعلى أبي بكرٍ وعمر مثل ذلك.
 وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلَّم أن حُسْنَ السمت والزيِّ الحسن من شمائل الأنبياء وخصالهم الأصيلة.
 وقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ الْهَدْيَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالِاقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ))

 وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ:

((خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَنِي أَنْمَارٍ قَالَ جَابِرٌ فَبَيْنَا أَنَا نَازِلٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلُمَّ إِلَى الظِّلِّ - أي شجرة ظلُّها وارف - قَالَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْتُ إِلَى غِرَارَةٍ لَنَا - غرارةٍ ظرفٍ شديد العِدْلِ، أي محفظة - فَالْتَمَسْتُ فِيهَا شَيْئًا فَوَجَدْتُ فِيهَا جِرْوَ قِثَّاءٍ - أي خيار وقته - فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا قَالَ فَقُلْتُ خَرَجْنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ جَابِرٌ وَعِنْدَنَا صَاحِبٌ لَنَا نُجَهِّزُهُ يَذْهَبُ يَرْعَى ظَهْرَنَا - أي نجهِّز صاحب لنا ليرعى الغنم - قَالَ فَجَهَّزْتُهُ ثُمَّ أَدْبَرَ يَذْهَبُ فِي الظَّهْرِ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ لَهُ قَدْ خَلَقَا قَالَ فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ فَقُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ ثَوْبَانِ فِي الْعَيْبَةِ كَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا قَالَ فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا قَالَ فَدَعَوْتُهُ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ وَلَّى يَذْهَبُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَهُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ قَالَ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))

( رواه مالك في الموطأ)

 إلى أين يذهب ؟ إلى الجبال ليرعى الغنم، ومع ذلك ما رضي النبي له هذين الثوبين، ليس هناك لقاء، ولا احتفال، ولا عقد قران، ولا عيد، ولا جمعة، راٍع يذهب إلى الجبال ليرعى الأغنام، وعليه ثوبان خَلِقان، فلما نظر النبي إليه قال: " أَمَا لَهُ ثَوْبَانِ غَيْرُ هَذَيْنِ ؟ فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العَيْبَة كسوته إيَّاهما ـ أي في البيت ـ قال: " فَادْعُهُ فَمُرْهُ فَلْيَلْبَسْهُمَا"، قال: فدعوته فلبسهما ثم ولَّى يذهب، فقال عليه الصلاة والسلام: " أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا لَهُ ؟ ".
 النبي عليه الصلاة والسلام لا يرضى للراعي، وهو يرعى الغنم في شعف الجبال، وليس معه أحد، لم يرض له هذه الثياب المبتذلة المهترئة، فكيف إذا كنت مع الناس وفي المدينة، ومع علية القوم كما يقولون ؟
 درسنا اليوم التجمُّل، فكان عليه الصلاة والسلام يتجمّل، ويأمر أصحابه بالتجمل، وكان له ثوب يلبسه في العيدين وفي الجمعة، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر علية قومه بذلك.
 وعَنْ مَالِك أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:

((إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى الْقَارِئِ أَبْيَضَ الثِّيَابِ))

( موطأ مالك)

 قارئ القرآن من كمال قراءته أن يرتدي ثوباً أبيض، والحجاز بلادٌ حارة، واللون الأبيض يتناسب مع الطقس الحار، ولكن كأن النبي يقول: هذا الذي يقرأ القرآن عليه أن يتجمَّل.
 وسيدنا عمر يقول:(إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم).
 وهناك حديث:

((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله))

(مسند الشهاب للقضاعي(1192)عن عائشة)

 وروى أبو نعيم في الحلية عن أبن عمر مرفوعاً:

((إن العبد آخذ عن الله تعالى أدبا حسنا، إذا وسع عليه وسع، وإذا أمسك عليه أمسك))

(البيهقي في شعب الإيمان(6591) عن ابن عمر)

 لأن الله عز وجل يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وأوضحُ أثر في الثياب، وأحياناً الإنسان يرتدي ثوبًا جديدًا، وهذا من إكرام الله له، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دقَّت، وكان إذا ارتدى ثوبًا جديدًا، هناك دعاء خاص للثوب الجديد.
 وروى الحاكم بإسناده عن سهل بن الحنظلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس))

( من الجامع الصغير)

 هذه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سافر الإنسان فيجب أن يأخذ معه إبرة، وخيطًا حتى إذا انقطع زره أصلح المشكلة، وأحياناً يسافر ببنطال واحد، ويمكن أن ينفتق البنطال، فيأخذ معه بنطالاً آخر احتياطًا، فدائماً فكر، إبرة، وخيط، وقميص احتياط، وهكذا كان النبي اللهم صلِّ عليه، لأنه مشرع.
 وروى الطبراني والبيهقي، عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه، ويكره البؤس والتباؤس ـ الهيئة القذرة، والهيئة المبتذلة،و الخنوع، والمسكنة، والتذلل، واليأس، يا حسرتي علينا، لماذا هذا التحسُّر ؟ أنت مؤمن، وتعرف ربك، ولك منهج، والله هو الرزاق، وهو الكريم، فالله يكره البؤس والتباؤس ـ ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف))

( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )

 يكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف، اسأل لكن مرة واحدة، فالإلحاح ليس له فائدة، فإذا أراد أن يعطيك يعطيك من مرة واحدة، فإن لم يعطِك لا تبذل ماء وجهك، ولا تذل نفسك، ولا تهينها، لذلك لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه..

((ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير))

 سمعت قديماً قصة إنسان دخل بستانًا، وهو يتجول في أنحائه رأى شجرة من أرقى التفاح ؛ حجمًا، ولونًا، وخدًا أحمر، ورأى تفاحةً تلفت النظر، وصاحب البستان صديقه، قال: فهممت أن أقطفها لآكلها، فقلت: لا يجوز، ثم جلسنا إلى الطعام، وبعد الطعام جاء طبق التفاح، وفي مقدمة هذا الطبق تِلك التفاحة بالذات، فلما هممت أن آخذها قلت: لا يجوز، فما كان من صاحب الدعوة إلا أن أمسك هذه التفاحة، وقدمها إليّ، انظر إلى الإنسان، منعه حياؤه أن يقطفها، ثم وضعت على الطبق، فمنعه حياؤه أن يأخذها، حتى قدمت له ضيافة.
 وأنا لي في هذا الموضوع تعليق لطيف ؛ فالرزق مقسوم، وهذه التفاحة في هذا البستان، بالشجرة الثالثة، في الغصن الرابع، والتفاحة السابعة، وهذه التفاحة لفلان، فطريقة وصول هذه التفاحة لفلان باختياره ؛ يمكن أن يسرقها وهي له، ويمكن أن يتسوَّلها وهي له، ويمكن أن يشتريها وهي له، ويمكن أن تقدَّم له ضيافة وهي له، ويمكن أن تهدى له وهي له، هدية، ضيافة، شراء، تسول، سرقة، فهذه باختيارك، أما هي لك، لذلك: اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك.

 

((إن الله يكره البؤس والتباؤس، ويبغض السائل الملحف، ويحب الحيي العفيف المتعفف))

 

( من الجامع الصغير: عن " أبي هريرة " )

 لذلك مرة سيدنا عمر رأى إنسانًا يطلب بإلحاح فقال له: (يا هذا لقد ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع منك)، ضيعت ماء وجهك، وكرامتك، وضيعت أثمن شيء تملكه.
 إذاً القسم الأول من الدرس كان عليه الصلاة والسلام متجملاً، ويأمر أصحابه بالتجمُّل، وكان له ثياب لا يرتديها إلا في أيام الجمعة والأعياد، وكان إذا وفد عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عليَّة قومه بذلك، وكان يقول:

((أحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس))

( من الجامع الصغير: عن " سهل بن الحنظلية " )

 والآن ننتقل إلى: حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق، لأن الدعوة أساسها المنطق، وأساسها الكلام الموزون، وأجمل ما في الرجل فصاحته، وأجمل ما في الآداب ضبط اللسان، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، فمن سمات المؤمن ضبط اللسان، يقول لك: عشت معه ثلاثين سنة، ولم أسمع كلمة بذيئة منه، فأحياناً من أجل أن نعظ الناس نتحدث عن الفجور في الطُرقات، وعن النساء، وبعض الدعاة يقول لك: العضو الفلاني ظاهر، والعضو الفلاني، هذا الكلام فيه إثارة، فعَنِ ابْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ أُسَامَةَ قَالَ:

((كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا))

 لم يقل: ساقها، لم يقل الكلمات الثانية، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتقي أعف الكلمات، حيث لا يخدش حياء المستمعين، وهذا أدب قرآني، قال لي أحدهم: ما حكم كذا ؟ ـ سلوك جنسي ـ قلت له: الله عز وجل قال:

 

﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾

 

( سورة المؤمنون )

 فكل الانحرافات في هذه الكلمة، وهذه الكلمة لا تخدش حياء طفل..

 

﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾

 

( سورة النساء: من الآية " 43 " )

﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً﴾

( سورة الأعراف: من الآية " 189 " )

﴿تَغَشَّاهَا﴾

 فأنت انظر إلى الآيات التي تشير إلى العلاقة الزوجية في القرآن، كلمات لطيفة ورائعة، كلمات لا تخدش الحياء، فأنت لا تتكلم بكلمات أمام أولادك، ولا أمام إخوانك، ولا أمام من هم صغار، كلمات تخجل، تصف العلاقات الزوجية، تتكلم كلام يستحيا منه، فهذا ليس من صفات المؤمن، أنا أقول لكم ملخصًا: الذي عنده مزح فاحش، هذا المزح الفاحش يقلل من إيمانه، هذا إذا لم يكن يعبر عن ضعف إيمانه أو عن انعدام إيمانه..

 

((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ))

 

( من سنن الترمذي: عن " عبد الله " )

 والحقيقة تجد من رواد المساجد في أدب يلفت النظر بكل المصالح، والمعامل، والمحلات، فإذا التقى مؤمنًا، فليس عنده كلمة مغشوشة، ومزحة سافلة، لأنّ هذا يتنافى مع أخلاقه.
فكان عليه الصلاة والسلام حلو المنطق، حسن الكلام، إذا تكلم أخذ بمجامع القلوب، وسبى الأرواح والعقول، وإذا تكلم خرج النور من بين ثناياه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ))

(الدارمي)

 إنه كلام لطيف، كلام متصل وفيه سيولة، وبحة خفيفة، فكان النبي حلو المنطق.
 وعن أبي قرصافة أنه قال: لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي، ورجعنا من عنده منصرفين، قالت لي أمي وخالتي:

((يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهاً ولا أنقى منه ثوباً، ولا ألين كلاماً، ورأينا كأن النور يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم))

(الطبراني في الكبير(2518)

الآن تجد البيوت كلها مرايا، وراء كل باب مرآة، وغرفة النوم فيها مرآة، والمدخل، فكان ينظر إلى جمته من الكوز من صفيحة ماء ساكنة، ومع ذلك كان متجملاً، ولم يكن عندهم قديماً حمام، وأنت تفتح الماء الساخن فينزل رأساً، ونحن الآن ننعم بشيء لا يتصوره الإنسان، ماء ساخن دائماً، تقريباً الحمام فيه ماء جار، وقد كانت الأمور بدائية، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات التجمل والنظافة، والأمور بدائية.
 وكان عليه الصلاة والسلام أفصح خلق الله لساناً، وأوضحهم بياناً، أوتي جوامع الكلمة، وبدائع الحكم، وقوارع الزَجر، وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة، والوصايا المُبرمة، والمواعظ البليغة، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والأدلة الساطعة.
 فأنت كمؤمن إذا أردت أن تكون داعية إلى الله، فرأس مالك المنطق، واللغة، والفصاحة، والنصوص، وأنا لا أعتقد مؤمنًا حريصًا على الدعوة إلى الله عزَّ وجل ولا يسجل ما سمع، سمع حكمة والله شيء جميل، لِمَ لَم تكتبها لتحفظها، فإذا أردت أن تحفظ فاكتب، ولمجرد أن تكتب فاحفظ، فالإنسان لما يهتم، فأنا أنصح كل إخوانها بوضع دفتر صغير في جيبه، أحياناً وهو يركب سيارة عامة سمعت تعليقًا، أو حكمة فسجِّلها، وكلَّما سجلت، وبوَّبت، وصنفت، فإذا قرأته فهذا كتاب بمكتبتك، انتهى العام الدراسي باع الكتب، فما هذا الكلام ؟ هذه مكتبة، كتاب قرأته احتفظ به، تصفحه من حين إلى آخر، قرأت كتاب اعمل تعليقات، اعمل حواشي، اعمل خطوطًا حينما تجعل الخطوط، والتعليقات، والحواشي تحفظ، فإذا حفظت ألقيت، هذا نص قرأته فأعجبك، فاحفظه، وأول لقاء تكلم فيه، على مرتين حفظته نهائياً.
 فبصراحة إذا لم يكن للإنسان إمكانية أن يتكلم لفترة طويلة كلامًا منضبطًا ن ونصوصًا صحيحة دقيقة، كيف يدعو إلى الله ؟ هو بصراحة الحق مثل الشراب الثمين، واللغة مثل وعاء للحق، فهل من المعقول أن تقدم شرابًا ثمين في وعاء قذر ؟ هذا غير معقول، فالفصاحة وتعلم العربية جزء من الدين، فيجب أن يكون عندك قاموس في البيت، وكتاب نحو، يكون لك مرجع، في درس عربي أحضره معك.
 نحن بعد أسبوع إن شاء الله ستعود دورة الدعاة، في درس اللغة العربية، وفي درس مصطلح حديث، ودرس أصول فقه، ودرس تاريخ الفقه، ودرس الفقه المُقارن، وعلوم القرآن، والعقيدة، وأصول الدعوة، بعد أسبوع إن شاء الله سنعود إلى التدريس في معهد الدعاة، فإذا كنتَ في درس اللغة العربية أحضره، وتعلموا العربية فإنها من الدين، وهذه لغتك، ولغة قرآنك، ولغة أمتك.
 وجاء في المسند وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَقُولُ:

((خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَتُجُوِّزَ بِي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ))

( رواه أحمد)

 وفي حديثٍ آخر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا ـ أي الشريعة ـ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))

( أحمد)

 المتهوكون هؤلاء الذين يلوون ألسنتهم بالكلام، فلا توجد فصاحة، والتقعر تشدق بالألفاظ، فكن فصيحً، وكن طبيعيًّا، وأتقن اللغة من دون تقعُّر، ومن دون تكلُّف، ومن دون تزمت.
 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي ))

 

 

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.

(متفق عليه)

 مرة جاءه وفد وسأله عن الصيام، فتكلم النبي لفصاحته بلغة أو بلهجة هذا الوفد، فلما سئل:" هل من أمبر أمصيام في أمسفر ؟ فقال: ليس من أمبر أمصيامٌ في أمسفر "،. أي ليس من البر الصيام في السفر، فكان يتكلم بلغة السائل، وهذا من فصاحته.
 ومر معي حديث في الجامع الصغير:

((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))

(كشف الخفاء(2374) عن أبي سلمة الحمصي)

 هذه لغة، النهاوش أي بالاحتيال، وروي مهاوش بالميم، والنهابر يذهب ماله في مهالك.

((من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))

 بجهات الجنوب، يقول أحدهم للآخر: أنطِه حقه، أي أعطه، فلما سأل واحد النبي اللهم صل عليه وهو عطية بن عروة السعدي الذي قال: حدثني أبي أن أباه أخبره قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم فخلفوني في رحالهم ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى من حوائجهم ثم قال:

((هل بقي منكم من أحد قالوا: نعم خلفناه في رحالنا، فأمرهم أن يبعثوا إلي، فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فلما رآني قال: ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئا، فإن اليد العليا هي المنطية، وإن اليد السفلى هي المنطاة، وإن مال الله تعالى لمسؤول، ومنطي))

 

 

قال: فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا.

( الحاكم في المستدرك(7930))

 هذه القبيلة تلفظ العين نوناً، وهذه القبيلة موجودة، فبالجنوب، يقول له: أنطه، وليس أعطه حقه، أنطه حقه، فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الأقوام بلهجاتهم.
 أما آدابه في الكلام فعَن عَائِشَةَ قَالَتْ:

((أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْمِعُنِي ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ))

(رواه مسلم)

 كلمةً كلمة، والحديث فن، فهذه قدرة بالإنسان اسمه: المتحدث اللبق، كلمة كلمةً، ووضوح، وسهل ممتنع، وجمل متينة، وفكرة مع الدليل، ودليل مع الشاهد، وتطور، وموازنة، ومحور انتقال واحد، فكلما راعى الإنسان اللغة والمنهج والوضوح والدليل صار في انجذاب إلى اللغة.
 وفي روايةٍ عن عائشة:

((إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهماً تفهمه القلوب))

(مسند أبي يعلى الموصلي(4393))

 وأذكر أنني قد قلت لكم ذات مرة: في دبلوم التربية عندنا كان عشرون دكتورًا، نحن كنا مئتين وعشرين طالبًا، في بعض المواد خمسة طلاب، أو عشرة طلاب، أو عشرون طالبًا يحضرون هذه المادة، أو تلك، لكن أحد الأساتذة يحضر درسه مئتين وعشرين طالبًا، لا يغيب أحد، ونصفهم على الواقف، لأنه أوتي فصاحة ووضوحًا، ودقة، وعمقًا في الصياغة، وشاهدًا، حيث لو حضرت محاضرته فهمت الدرس، ولا تحتاج إلى أن تقرأه في الكتاب.
 فإذا كان الإنسان حريصًا على نقل الحق للناس، كان حريصًا أيضاً على استيعاب أصول الحديث.
 وكان كلامه فصلاً يفهمه كل من سمعه، وكلما ضعفت القدرة اللغوية عندك أصبح كلامك معقدًا، والتعقيد في الكلام دليل ضعف اللغة، أو دليل اضطراب في المعني، والمعاني المضطربة في نفس المتكلِّم أو ضعف اللغة يظهران بشكل تركيب معقَّد، ولكن المعاني الواضحة والفصاحة التي يتمتع بها المتكلم تجعل كلامه سهلاً واضحاً، وهذا الكلام سماه علماء البلاغة السهل الممتنع، فعجيب إذًا هذا الكلام، فهذا الكلام السهل الممتنع يظنه الضعيف بسذاجةٍ أنه يحسن مثله، وهو أبعد إليه من السماء، إنه السهل الممتنع.
 وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:" كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ـ وضح في كلمات دقيقة مفصلة، أعادها مرة، ومرتين وثلاثا حتى تفهم عنه ـ وكان صلى الله عليه وسلم يتكلم بكلامٍ فصلٍ لا هذرٍ ولا نذرٍ ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به وكان صلى الله عليه وسلم يكره التنطع في الكلام والتكلف في فصاحته".
 وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ))

(الترمذي، وأبو داود)

 فكل شيء له حد معتدل، أكثر تقعر.
 ومن أروع ما قيل في النبي عليه الصلاة والسلام " كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب لا يخل ولا يمل "، فأحياناً هناك إيجاز مخل، و إطناب ممل، فكان إذا خطب لا يخل ولا يمل.
 وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:

 

((كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا - معتدلة - وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا - أي وسطاً -))

 

( رواه مسلم )

 صلاته معتدلة وخطبته معتدلة..
 وكان عليه الصلاة والسلام لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هي كلماتٌ يسيرة.
 أنا معجب بهذا الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا رسول الله عظني ولا تطل "، فتلا عليه قوله تعالى:

 

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7)﴾

 

( سورة الزلزلة )

 فقال له: " كفيت "، فقال النبي: " فقه الرجل ".
 يا ترى المسلمون الآن يسمعون خطبًا أكثر من ثلاثين سنة، ويحضرون دروس العلم، ويسمعون أشرطة، ويقرؤون الكتب، والمجلات، يشاهدون الندوات، ومع ذلك إذا فحصت سلوكهم تجد فيهم خللاً كبيرًا، وهذا الأعرابي تكفيه آيةٌ واحدة ؟!
 وروى الإمام أحمد وأبو داود عَن الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَالَ:

((وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ زُرْنَاكَ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَأَمَرَ بِنَا أَوْ أَمَرَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّأْنُ إِذْ ذَاكَ دُونٌ فَأَقَمْنَا بِهَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا))

 هذا هو الصدق، التقى الإخلاص والتطبيق مع الكلام القليل البليغ، إنه أبلغ ألف مرة من كلام مُسهب بتفاصيل وجزئيات ولا يوجد تطبيق، لذلك قال سيدنا الصديق:(إيَّاك وكثرة الكلام، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضًا).
 أي إذا تحدثت فتحدث في موضوع واحد مركز، وله مقدمة، وعرض، وتشقيق، مع أدلة، وشواهد، وقصة مؤكدة مع خاتمة، وانتهى الأمر.
 وروى الطبراني والبزَّار عن جابر، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه كذلك رأيته أطلق اللسان وجهاً وأكثرهم ضحكاً وأحسنهم بشراً.
 أي إنه رجل عادي، لطيف، مرح، صاحب طُرفة، يمزح مع أصحابه، طليق الوجه، كثير البِشر، هكذا كان عليه الصلاة والسلام.
 وكان عليه الصلاة والسلام إذا وعظ أثَّر في قلوب السامعين، وطيَّب نفوسهم، حتى إنهم لتذرف دموعهم، وترق وتخشع قلوبهم، ويرتقي حالهم إلى المشاهدات والمعاينات.
 فلقد كان مجلس النبي اللهم صلِّ عليه مجلس مشاهدة، وهذا الدليل، تعرفونه.
 عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))

(رواه مسلم)

 القصة لها تتمة، هذا الصديق الجليل، الصاحب الأول، سيد الصحابة قال له: " أنا كذلك يا أخي ـ تواضع ـ انطلق بنا إلى النبي ".
 فلما انطلقا إلى النبي ذكر له حديث حنظلة: " نكون مع رسول الله ونحن والجنة كهاتين، فإذا عافسنا الأهل ننسى "، فأحياناً يكون الإنسان في مجلس علم مبسوطًا مرتاحًا، مشرق النفس، يأتي على البيت اعملوا لنا عشاء، تأخروا بالعشاء، أين الشاي، لماذا لم تقولوا لي، فيتشجارون، أين الحال ؟ كان في المسجد مبسوطًا مرتاحًا، فراح الحال كله، قال: " فإذا عافسنا الأهل ننسى، قال له: أنا كذلك يا أخي " فلما عرضا ذلك على النبي قال:

((إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا))

( من الجامع لأحكام القرآن: عن " محمد بن كعب " )

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ))

 أي يا أخي الكريم إذا جلست في مجلس علم وشعرت أنك مسرور، مرتاح، في تجلٍّ، وطمأنينة، وسكينة، وكأنك في الجنة، فهذه علامة طيبة لك لأن هذا هو إكرام الله لك في بيته، ألم يقل النبي:

((إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عماراها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيتي ثم زارني، وحق على المزور أن يكرم الزائر))

(فيض القدير، للمناوي(2/445))

فهذه السكينة، وهذا التجلي، وهذه الراحة النفسية، أنا أقول لكم: واللهِ سمعت هذا من إخوة كثيرين، يقولون لك: أنسى كل مشاكلي، وكل هموم الدنيا، وأرتاح، فخرجتُ من المسجد مبسوطًا، مسرورًا، فهذه مكافأة الله لك، وهذه ضيافته، كما أنك تزور إنسان فيقدم لك كأسًا من الشاي، وسُكَّرة، ويطعمك، أما ربنا عندما يحب أن يكرمك ماذا يفعل بك ؟ يلقي على قلبك السكينة..
 

﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾

( سورة التوبة: من الآية " 26 " )

 فهذه السكينة أثمن ما في الدين، وهذه الراحة النفسية، هذا الحال الطيب، قال:

((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ))

 فالنبي اللهم صلِّ عليه كان يرى ما لا يراه الآخرون، وكان يخطب على جذع نخلة، فلما صُنِع له منبر حنَّ الجذعُ إليه فأسكنه بيده، فهل لديك إمكانية أن تفهم على جذع نخلة ؟ كان عليه السلام يقول:

((إن حجرا كان يسلم عليَّ في الجاهلية إني لأعرفه الآن))

( من الجامع لأحكام القرآن )

 دخل مرة لبستان رأى ناقةً، فحنت لما رأته، فقال:

((مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ ـ هذا الجمل ـ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ))

( من سنن أبي داود: عن " عبد الله بن جعفر " )

 فالجمل شكا له، والحجر سلَّم عليه، والنخلة حَنَّت إليه، وهذا فوق طاقتنا، فنحن مثل الجماد، جماد على جماد، فالنبي عليه الصلاة والسلام لشدة إقباله على الله، لشدة شفافية نفسه، فكان يرى ما لا يراه الآخرون.
 إذاً الإنسان بالمسجد تصفو نفسه، ترق مشاعره، يرى ما لا يراه وهو في الطريق، وهو في البيع والشراء، هذا إكرام الله له.
 وروى الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ:

((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ))

( رواه الترمذي)

 قال لي رجل بعيد عن جو المشايخ: أنا لست قابضًا أحدًا ـ يقصده من المشايخ ـ قال لي: مرة كنت بحمص دخلت مسجدًا متواضعًا، والخطيب تكلَّم، فصرت أبكي، قال لي: والله يا أستاذ ثلاثة أرباع الساعة، وأنا أبكي، قال لي: ما سر ذلك ؟ قلت له: لأن هذا الخطيب مخلص ومطبق، فالله أعطى لكلامه قوة تأثير، وهذا هو السر، فالدين ليس بحرفة، ويقول الإمام الشافعي ـودققوا في هذا الكلام ـ: (لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين)، لأنّ الدين لا يرتزق به، فالدين اتجاه، وموقف، فأنت تريد المال فاشتغل بالتجارة، أما دع الدين جانباً، دع الدين في العلياء، وفي السماء، ولا تجعله في الوحل، ولا تتخذه تجارة، ولا ترتزق بالدين لكي يبقى الدين عظيمًا، لكي لا يشك الناس في المتديِّنين، لذلك وعظنا النبي موعظةً وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون.
 وقال أسيد بن حضير: (لو أني أكون على أحوالٍ ثلاثة من أحوالي لكنت من أهل الجنة) ـ له ثلاثة أحوال لو بقي على أحد هذه الأحوال لكان من أهل الجنة ـ قال:(حين أقرأ القرآن، وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله)، أي إنه إذا قرأ القرآن يشعر بحال عظيم، وإذا استمع إلى القرآن يشعر كذلك، فبصراحة مؤمن لا يبكي إطلاقاً فقلبه مثل الصخر ؟! ولا يقشعر جلده !! ولا يجل قلبه ؟!
 قال الحسن البصري: " إذا قرأت القرآن، أو صليت، أو ذكرت الله، ولم تشعر بشيء فهناك خلل خطير في إيمانك "، فلماذا إذا لاحظ شخص ذبابة تطير مع حركة عينه لا ينام الليل من خوفه ؟ يقول له الطبيب: بعد ثلاثة أشهر الموعد، ويقول له: حاضر، فالعين ليس معها لعب، ولماذا القلب إذا كان في الصلاة لم تشعر بشيء، وفي الذكر لم تشعر بشيء، وفي القرآن لم تشعر، معنى ذلك أن ثمة خللاً، والطريق المسدود، بل أنت محجوب بحجاب، والمعصية حجاب، فابحث أين توجد المعصية، وأين يوجد الخلل، وأين يوجد المال الحرام، وأين يوجد نظرة لا ترضي الله عزَّ وجل، أو علاقة اجتماعية مشبوهة، فانتبه، وما دام أنك محجوب فأنت في خلل خطير.
 فقال: (حين أقرأ القرآن، وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذ شهدت جنازة).
قال: (وكانت خطبه صلى الله عليه وسلم تؤثر في الجمادات).
 آخر حديث من فصاحته صلى الله عليه وسلم، عن مالك بن دينار عن الحسن رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام ـ وهذا الكلام دققوا به ـ:

((ما من عبدٍ يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أراد بها))

 

 

قال: فكان مالك بن دينار إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم يقول: (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً). 
 فإذا تكلمت عن الله عزَّ وجل، فالله سيحاسبك ماذا قلت للناس ؟ أنت كذلك ؟ بماذا أمرتهم، فأتمرتَ بذلك ؟ عن ماذا نهيتهم ؟ فانتهيت عما نهيت عنه ؟ فكان مالك بن دينار كلما قرأ هذا الحديث يبكي يقول: (أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله عزَّ وجل سائلي عنه يوم القيامة ما أردت به ؟ فأقول: أنت الشهيد على قلبي، لو لم أعلم أنه أحب إليك لم أقرأ به على اثنين أبداً).
 والنبي حذر قال:

((من تعلَّم صرف الكلام ليسبي قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً))

 يمكن أن تكون ضمن الدين شهوات، وضمن الدعوة تكون الدنيا والحظوظ، فإذا تكلم الإنسان ونيته يجمع أنْ الناس، ويكون حوله ناس يعينونه، ويحلون له مشاكله، فهذه نية سيئة، فحتى في الدعوة إلى الله توجد مزالق خطيرة..

((من تعلم صرف الكلام ليصرف وجوه الناس إليه فليتجهز إلى النار))

 لذلك:

((يا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل))