الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثامن من دروس شمائل النبي صلى الله عليه وسلَّم، في الدرس الماضي وصلنا إلى انبساطه صلى الله عليه وسلَّم مع أهله وذوي القربى، وتحدَّثنا عن كريم عشرته، وحسن معاملته مع زوجاته وسائر أهله، بقيت نقطة..
فقد روى الشيخان والترمذي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
((جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لَا يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا قَالَتْ الْأُولَى زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ قَالَتْ الثَّانِيَةُ زَوْجِي لَا أَبُثُّ خَبَرَهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَهُ - أنْ أفقِده - إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ - أيْ عيوبه الظاهرة والباطنة - قَالَتْ الثَّالِثَةُ زَوْجِي الْعَشَنَّقُ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ قَالَتْ الرَّابِعَةُ زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ - أي مكة - لَا حَرٌّ وَلَا قُرٌّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ قَالَتْ الْخَامِسَةُ زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ قَالَتْ السَّادِسَةُ زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ وَإِنْ اضْطَجَعَ الْتَفَّ وَلَا يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ قَالَتْ السَّابِعَةُ زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ قَالَتْ الثَّامِنَةُ زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ قَالَتْ التَّاسِعَةُ زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ عَظِيمُ الرَّمَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِ قَالَتْ الْعَاشِرَةُ زَوْجِي مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ قَالَتْ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ وَمَلَأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلَا أُقَبَّحُ وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ أُمُّ أَبِي زَرْعٍ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ عُكُومُهَا رَدَاحٌ وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ لَا تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا وَلَا تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا وَلَا تَمْلَأُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا قَالَتْ خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا رَكِبَ شَرِيًّا وَأَخَذَ خَطِّيًّا وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا وَقَالَ كُلِي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ قَالَتْ فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ قَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ))
الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم على علو مقامه، وعلى رفعة شأنه، وعلى أنه مشغولٌ بعظائم الأمور، وعلى أنه يحمل أكبر رسالةٍ على الإطلاق، ومع أن شغله الشاغل نشر الحق في الأرض، كل هذه المهام الصعبة التي يتحمَّلها، وكل هذه الهموم الكبيرة التي تملأ قلبه، وكل هذه الأهداف البعيدة التي يسعى إليها، وكل هذه الرحمة التي في قلبه على البشر، كل هذا لم يمنعه أن يصغي إلى السيدة عائشة وهي تحدِّثه عن قصةٍ سمعتها تتعلَّق بالحياة الجاهليَّة، فماذا نستنبط من هذا ؟
نستنبط أنّ أحدَ مفردات الأخلاق، وأنّ إحدَى كمالات النبي عليه الصلاة والسلام حسنُ إصغائه، فأنت تأتي إلى البيت، لا شك أن الزوجة عندها لك حديثٌ طويل، معظم هذا الحديث قد لا يعنيك، وربما لا تعبأ بتفصيلاته، وقد لا ترى أنه حديثٌ يليق بك، لكن الكمال أن تستمع، والكمال أن تصغي.
قد يأتي ابنك من المدرسة، فيحدثك عن خلافٍ نشب مع رفيقه، وكيف أن زميله هذا شكاه إلى المعلِّم، وكيف أن المعلِّم عاقبه ظُلماً، وكيف وكيف...، حديث طويل، وقد يبكِ، وينفعل، ويحدِّثك، فأنت كمؤمن ماذا عليك أن تفعل اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلَّم ؟ عليك أن تصغي، الإصغاء كمال.
الإنسان أحياناً يكون في حالة ضيق شديد، يكون في ألم شديد، يعاني من مشكلة، أربعة أخماس شفائه منها البوح، أن يبوح بها، لذلك الآن الأطباء النفسيون يستمعون إلى المريض بهدوءٍ جم، وبهدوءٍ بالغ، وأدبٍ متواضع حتى يبوح المريض بكل ما في نفسه، والمؤمن أحد جوانب كماله الإصغاء، والاستماع، وحسن التلِّقي، والاهتمام، وليس واحد من المؤمنين إلا وله زوجة، وله أولاد، وله أصدقاء، له إخوة صغار، إخوة كبار قد يحدِّثونه حديثاً لا يعنيه، لا يتعلَّق بمشاغله الكبيرة، ولكن الأدب يقتضي أن يصغي، وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه، ولعله أدرى به.
قصَّةٌ طويلةٌ جداً روتها السيدة عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكل امرأة تحدَّثت عن زوجها حديثاً بليغاً، دقيقاً، واقعياً ثم قال عليه الصلاة والسلام، وقد انتقى من هذه القصَّة الطويلة خبرَ إحدى الزوجات التي أثنت على زوجها ثناءً كبيراً، وهو أبو زرع، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ))
أي أنه انتقى أرقى النماذج وقال: أنا لعلّي لكِ كأبي زرع لأم زرع، وفي رواية تقول إنها قالت: " بل أنت خيرٌ من أبي زرع ".
حديث بين النبي وزوجته في البيت، أحياناً هناك رغبةٌ جامحة أن نتعرَّف إلى هؤلاء العظماء، ماذا يفعلون في البيت ؟ ماذا يتكلَّمون ؟ بماذا ينشغلون ؟ ما اهتماماتهم في البيت ؟ كيف يعاملون أهل البيت ؟ هذه صورةٌ واقعيةٌ من حياة النبي عليه الصلاة والسلام وهو في بيته، السيدة عائشة روت له قصَّةً طويلةً، منتزعةً من الحياة الجاهليَّة عن نساءٍ كثر تحدَّثن عن أزواجهن حديثاً واقعياً، وقد استنبط العلماء الأحكام التالية:
قال العلماء: " نُدِبَ حُسن المعاشرة للأهل، وندب السمر معهن"، أي عليك في وقت من أوقاتك أن تجلس مع زوجتك وتسمع لها، تحدثها، تمزح معها مزاحًا شرعيًا، تصغي إلى همومها، إلى مشكلاتها، تحدثك عن أهلها ؛ عن أخواتها، عن والدتها، إصغاؤك لزوجتك اتباعٌ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، إصغاؤك لأولادك الصغار وهم يتحدَّثون عن همومهم لك اتباعٌ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فاقتدوا بهذا الخُلُق.
إذاً نُدِب حسنُ المعاشرة للأهل، وندب السمر معهن، كملاطفة الزوجة، وإيناس الضيف، قال: " ويجوز ذكر الشخص المجهول عند المتكلِّم والسامع بما يكره " هل هذه غيبة ؟ الجواب: لا، لماذا ليس غيبةً ؟ من هم هؤلاء الرجال ؟ فما ذكرنا أسماءهم، مَن هنَّ هؤلاء النسوة ؟ ما ذكرنا أسماءهن، يجوز ذكر ـ كما قال العلماء ـ المجهول عند المتكلِّم والسامع بما يكره، فإنه ليس بغيبةٍ، وغاية الأمر أن عائشة رضي الله عنها ذكرت نساءً مجهولات، ذكرت بعضهن عيوب أزواجٍ مجهولين، لا يُعرفون بأعيانهم ولا بأسمائهم، ومثل هذا لا يعد غيبة.
مثلاً: هناك رجل فعل هذا مع زوجته، فليست هذه غيبة، هناك امرأةٌ فعلت كذا مع زوجها، ليسه هذه غيبة ما لم يُذكر شخصٌ بعينه.
لكن أيها الإخوة دقِّقوا فيما سأقوله الآن ؛ لو أنك ذكرت رجلاً نكرةً، لكن ذكرت أنه يسكن في المكان الفلاني، يعمل في العمل الفلاني، تزوج قبل شهر، والسامع يعرف مَن هذا الذي تزوَّج قبل شهر، ويسكن في المكان الفلاني، ويعمل العمل الفلاني، فأنت بذلك قد أعطيت بعض القرائن التي تشير إليه، هذه غيبةٌ وربِّ الكعبة، فأية قرائن تعطيها لاسمٍ مجهول حيث يغدو هذا المجهول معلوماً، هذه غيبةٌ ورب الكعبة، فإذا قلت: رجل يحمل الشهادة الفلانية، يسكن في المكان الفلاني، يعمل في المكان الفلاني، فأنت بهذا عرَّفته وانتهى الأمر، ولو لم تذكر اسمه فهذه غيبةٌ ولا شك.
وأيضاً العلماء استنبطوا من هذه القصَّة أنه يجوز الحديث عن الأمم الماضية، والأجيال البائدة، وضرب الأمثال بهم، لأن في سيرهم عبرةً واستبصاراً للناس.
وهناك شيء آخر ؛ أحياناً تكون هناك موضوعات جادة، دراسة جادة، موضوع فقهي، موضوع في التفسير، موضوع في الحديث، فإذا قيلتْ طرفة ترطِّب الجو، تجدِّد النشاط، ترسم على الوجوه ابتسامة، فهذا من لوازم التعليم، فهذا حكم آخر، فلك أن تذكر طرفةً لطيفةً تريح المستمعين، تجدِّد نشاطهم، تعطيهم القوة على متابعة المحاضرة، هذا حكمٌ آخر يدلّ على أمر مباح.
يروى عن القاضي عياض: " أن التحدث بمِلَحِ الأخبار، وطُرف الحكايات تسليةٌ للنفس، وجلاءٌ للقلب ".
وقال سيدنا عليٌ كرَّم الله وجهه: " سلَّوا هذه النفوس ساعةً بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد "، عظماء العالم عندهم روح مرحة، الروح المرحة، والطرفة اللطيفة، والفكاهة المنضبطة، هذا يجذب المستمع، ويجدِّد النشاط، فأنا أقترح على إخواننا الكرام إذا كنت في البيت فلا تكن جاداً إلى درجة المَقْت، كن ليِّناً، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، اروِ بعضَ الطُرف، ابتسمْ، اذكرْ الأسماء متحبِّباً، انظر نظرة عطف، هذا الذي يقيم الودَّ في البيت، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، آباءٌ كثيرون يقولون: يا أخي افتح البراد فإنه مليء، أهلك يريدون ابتسامتك، البراد مليء كثَّر اللهُ خيرك، لكن أهلك يريدون ابتسامتك، طلاقة وجهك، الكلمة اللطيفة، السلام، السؤال عن الصحة، التعطُّف، التحبُّب، التودُّد، هذا الذي يريده الآخرون منك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم ))
( من الجامع الصغير )
قال عليه الصلاة والسلام:
((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي هريرة " )
ابتسامتك في وجه أخيك صدقة، طلاقة الوجه صدقة، هكذا، وكان عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ - وفي رواية تسع سنين- فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ))
هذه رواية لسيدنا أنس الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلَّم عشر سنين.
وفي رواية أبي نعيم قال أنس:
((فما سبني صلى الله عليه وسلَّم قط، ولا ضربني قط، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمر في أمرٍ فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه أحدٌ من أهلي قال: دعوه لو قُدِّر شيءٌ لكان))
عشر سنوات، أحياناً يكون عمال في محل تجاري، يغلط هذا الصانع غلطة طفيفة فَيَسُبُّ أباه الذي خلَّفه، والذي عرَّفه عليه، وإنْ كان طفلاً مسكينًا يشعر أنه سيسحق سحقًا، هكذا بعض أرباب العمل، أما المؤمن فإنّه يتخلَّق بأخلاق النبي، حلم جمٌّ وتسامح.
(( كاد الحليم أن يكون نبيا ))
( من الجامع الصغير: عن " أنس " )
((الحلم سيِّد الأخلاق))
أحياناً يسمع الصانع كلمات تجرح، لو أنك جرحته بالسكين لكان أهون عليه من هذه الكلمات القاسية التي تحقِّره بها، قال عليه الصلاة والسلام:
((لا تحمِّروا الوجوه))
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يواجه أحداً بما يكره، وإذا أراد أن يصلح من عيوب أصحابه صعد المنبر وقال:
((ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا))
عمم القول، هذا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.
من أدبه الرفيع صلى الله عليه وسلَّم مع من يحدِّثه، كان صلى الله عليه وسلَّم يصغي كل الإصغاء إلى من يحدِّثه أو يسأله، ويُقبِل عليه ويلاطفه، فكثيراً من الآباء يكون مشغولاً، القضية تشغل باله، يحدِّثه ابنه كثيراً، فلو سئل: ماذا حكيت ؟ فيجيب: والله ما انتبهت، تحدِّثه زوجته فلا يصغي إليها، عدم الإصغاء يجرح المتكلِّم.
روى أبو داود عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
((مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي أراد أن يهمس بأذنه، أي يكلِّمه سراً فينحي النبي رأسه عنه أبداً، ما فعلها ولا مرَّةً واحدة، إنسان قرَّب فمه إلى أذن النبي ليسرَّ إليه سراً ما فعل النبي في حياته كلها أن ابتعد عن هذا المتكلم -فَيُنَحِّي رَأْسَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ))
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ فَقَالَ:
((... أَحْسِنُوا الْمَلَأَ - أي أحسنوا أخلاقكم - كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْتُ لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...))
ما قولكم ؟ ذهب شيخ مع إخوانه لأداء فريضة الحج، صعدوا كلهم إلى الحافلة، ونسوا الشيخَ يقف على الطريق، فأحياناً لا تجد أدبًا،
((يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا عَطِشْنَا فَقَالَ لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي قَالَ وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسِنُوا الْمَلَأَ كُلُّكُمْ سَيَرْوَى قَالَ فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي اشْرَبْ فَقُلْتُ لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا قَالَ فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))
(صحيح مسلم عن أبي قتادة)
علِّم نفسك إذا كنت مع مجموعة أنْ تكون عطوفًا كالأب، فكثيرًا ما لاحظت في نُزهات يقوم بها بعض الإخوة الكرام، فيوضع الطعام على المائدة، المجموع عشرة، والموجود سبعة يبدؤون بالطعام، وثلاثة في خدمة هؤلاء، لكنه يعجبني ألاّ نأكل لقمةً واحدة إلى أنْ يجتمع الكل على المائدة، وكبير القوم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، هكذا السنة، أنا لاحظت هذه الملاحظة بشكل واضح، وهي منتشرة بكثرة، اثنان أو ثلاثة لم يجلسوا بعد إلى الأكل، والكل بدأ يأكل، فالأكمل ألاّ نأكل حتى نستكمل العدد، أين فلان ؟ يحضر الماء، نحن في انتظاره، أين فلان ؟ يأتي بالخبز، نحن في انتظاره، فإذا جلسوا جميعاً عندئذٍ نأكل، هكذا السنة.
وعن عمرو بن العاص قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقبل بوجهه وحديثه على شر القوم ـ إنسان شرير ـ يتألَّفه بذلك، وكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني من خير القوم، فقلت: يا رسول الله أنا خيرٌ أم أبو بكر ؟ قال: أبو بكر، قلت: يا رسول الله: أنا خيرٌ أم عمر ؟ قال: عمر، قلت: يا رسول الله أنا خيرٌ أم عثمان ؟ قال: عثمان، فلما سألت النبي صلى الله عليه وسلَّم عَنْ عليٍّ صدَّ عني، فوددْتُ أني لم أكن سألته))
لذلك قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾
( سورة المائدة: من آية " 101 " )
فأحياناً إنسان يريد أن يسأل عن شيءٍ، والجواب قد يسوؤه، فالأكمل ألاّ يسأل، ولهذه الآية معنى آخر ؛ الله عزَّ وجل أمر بأشياء، ونهى عن أشياء، وسكت عن أشياء، هذا الذي سكت عنه لم يسكت عنه نسياناً، لا والله، لكن الحكمة التي تستنبط من سكوت الشارع الحكيم عن بعض الأشياء لا تقلُّ عن حكمة التشريع نفسها.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا بعث بعثاً قال:
((تألَّفوا الناس))
أي إنّ المؤمن مألفة، يألف ويؤلف، وكان عليه الصلاة والسلام أطلقَ الناس وجهًا، وأكثرهم تبسُّماً، وأحسنهم بشراً.
الابتسامة أيها الأخ الكريم لا تكلِّفك شيئاً، لكنها تفعل فعل السحر في نفوس مَن هم دونك ؛ فلو أنّ مدير مدرسة، أو مدير مستشفى، أو مدير معمل، أو صاحب متجر عنده موظَّفون فدخل مبتسمًا، وقال: السلام عليكم، كيف حالكم؟ هذه الكلمات الخفيفة اللطيفة تفعل فعلَ السِّحر، فإياك أن تضنَّ بها على مَن هم معك، تجدِّد نشاطهم، تبعث فيهم الهمَّة.
وروى البزَّار بإسنادٍ حسن عن جابر رضي الله عنه قال:
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ضحكاً، وأحسنهم بشراً))
عوِّد نفسك الابتسامة دائماً، ترحيب شديد، سلام حار، سؤال عن الصحة، عن الأهل، يخطر في بالي أحياناً إنسان جاء من مكان بعيد، كيف الحال ؟ الحمد لله، كيف الأمطار عندكم ؟ الحمد لله، الأهل بخير إن شاء الله ؟ الكلمة الطيبة صدقة، فالنبي الكريم إذا جاءه الوحي، أو وعظ قوماً قلت: نذير قومٍ، هو نذير قومٍ أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ضحكاً، وأحسنهم بشراً.
تقول السيدة عائشة حينما سُئلت: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلَّم إذا خلا في بيته ؟ قالت:
((كان ألين الناس، بسَّاماً، ضحَّاكاً، لم يُر قطُّ ماداً رجليه بين أصحابه))
هذا الدرس لا لأخذ العلم، ولكن للتطبيق العملي، هذه الدروس كلُّها قيمتها في التطبيق، أمّا كمعلومات فهي لا تقدِّم ولا تؤخِّر، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى مقام عند الله، ولا يزيده رفعةً أن نتحدَّث عن شمائله، ولا يقلِّل من قدره أو ينتقص أن نسكت عن شمائله، ولكن إذا درسناها، وذكرناها، وذكَّرنا بها فمن أجل أن تكون مطبَّقةً في حياتنا.
إخواننا الكرام ؛ بيتُ المؤمن ينبغي أن يكون قطعةً من الجنَّة، ولو كان بيتاً صغيراً، ولو كان الطعام خشناً، ولو كان اللباس رخيصاً، ولو كان الموقع ليس فخماً، السعادة لا تأتيك من الخارج، لكنها تنبُع من الداخل، من داخلك تنبع السعادة، من إيمانك بالله، من إرادتك أن تُدْخِلَ على قلب من حولك السرور، إذا أردت ذلك كنت أنت أسعد الناس، إذا أردت أن تسعد فأسْعِد الناس.
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم فقال:
((السلام عليك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله، ثم أتى آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته))
ماذا يستنبط من هذا الحديث ؟ يستنبط..
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾
( سورة النساء: من آية " 86 " )
هكذا علَّمنا النبي، السلام عليكم، عليكم السلام ورحمة الله، أحياناً إخوان كثيرون على الهاتف يقولون: السلام عليكم ورحمة الله، ينبغي أن أقول لهم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هكذا..
((أَفْشُوا السَّلامَ تَسْلَمُوا))
( من مسند أحمد: عن " البراء بن عازب " )
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ جَاءَ عَمَّارٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
((ائْذَنُوا لَهُ مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ))
( من سنن الترمذي: عن " علي " )
فهل شيء قليل أن يكون حولك أحباب، وكل إنسان تعطيه حقه، وتعطيه قدره، وتعرف ميزاته، وتعرف تفوُّقه، وتعرف جوانب عظمته، وتعرف بطولاته، وتعرف لكل إنسان قدْرَه، هكذا السُنة،
((مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ))
( من سنن الترمذي: عن " علي " )
سيدنا عمر:
(( لو كان نبيٌ بعدي لكان عمر ))
( من الجامع الصغير: عن " عصمة بن مالك " )
سيدنا الصديق:
((ما ساءني قط، فاعرفوا له ذلك))
سيدنا سعد:
((ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي))
(من صحيح البخاري: عن " عبد الله بن شداد " )
سيدنا معاذ:
((والله إني لأحبك))
( من أحاديث الإحياء: عن " معاذ " )
سيدنا خالد:
((سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " )
سيدنا أبو عبيدة:
((أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ))
( من صحيح البخاري: عن " حذيفة " )
سيدنا الزبير:
((حواري هذه الأمة))
ذات مرَّةٍ قلت لكم: دخل المسجدَ رجلٌ وكان النبي قد بدأ بالصلاة، فخاف هذا الصحابي أن تفوته الركعة مع رسول الله فأحدث في المسجد جَلَبَةً وضجيجًا ليدرك الركعة، فلما انتهى النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ))
( من صحيح البخاري: عن " أبي بكرة " )
علَّمنا إذا أردت أن تنتقد أحداً ممن معك في العمل، ذكِّره أولاً بنواحيه الإيجابيَّة، بعدئذٍ حاول أن توجِّهه الوجهةَ الصحيحة.
وعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِيِنَ قَالَتْ:
((إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ جَمِيعًا لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام تَمْشِي لَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ مَرْحَبًا بِابْنَتِي ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ))
(رواه البخاري)
وهناك رواية قرأتها قبل حين:
((كان عليه الصلاة والسلام يقف لابنته فاطمة إذا دخلت عليه))
الودُّ الذي بين النبي وبين أهله يفوق حدَّ التصور، فأنت إذا قلَّدت النبي، كما لو دخلتْ عليك ابنتك المتزوِّجة مع زوجها فنهضت واقفاً، وقلت: أهلاً ببنيَّتي الحبيبة، وصافحتها، وأجلستها، وسألتها عن صحَّتها، وعن أولادها، وعن زوجها، وكيف حالها، هذا عمل عظيم، شددتها إليك، ألَّفت قلبها، جبرت خاطرها، أكرمتها، هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَنْ الْقَوْمُ أَوْ مَنْ الْوَفْدُ قَالُوا رَبِيعَةُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى...))
وٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جِئْتُهُ
((مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ))
( من سنن الترمذي: عن " عكرمة بن أبي جهل " )
وعَنْ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ فَقَالَ:
((مَنْ هَذِهِ قُلْتُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ...))
(رواه مسلم)
السلام اللطيف، أن تناديه باسمه، أو بأحب الأسماء إليه، أو بصفته، أو بما يحبه من الكُنى هذا من السنة.
وأخذ الإمام أحمد من حديث أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يلقى الرجل فيقول:
((يا فلان كيف أنت ؟ فيقول: بخيرٍ أحمد الله. فيقول له النبي صلى الله عليه وسلَّم: جعلك الله بخير))
كيف حالك يا فلان ؟ كيف أهلك ؟ كيف أولادك ؟ كيف عملك ؟ هل أنت بخير ؟ هل تشكو شيئاً، قل لي ؟ هكذا المؤمن.
وروى أبو يعلى بإسنادٍ حسن عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
((كيف أصبحت ؟، قال: بخيرٍ من قومٍ لم يعودوا مريضاً ولم يشهدوا جنازةً))
أيْ أنا من قومٍ لم يعودوا مريضاً ولم يشهدوا جنازةً، أنا بخير.
وأخذ الطبراني بإسنادٍ حسن عن ابن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام لرجل:
((كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلَّم: ذلك الذي أردته منك))
واحد ـ هكذا تروي بعض الكُتب ـ سأله النبي عن حاله وكان فقيرًا فقال له: حالي كما تراني، الأول قال له: " كيف حالك يا فلان "، قال: بخيرٍ والحمد لله، أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " ذلك الذي أردته منك "، فإذا قلت: الحمد لله، لو كنت مُتعبًا، لو كنت تعاني مشكلة، لو كنت تعاني من مرض، هذا شيء عظيم، تقول: الحمد لله على كل شيء، وعلى كل حال، كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءت الأمور وفق ما يريد يقول:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ))
( من سنن ابن ماجة: عن " السيدة عائشة " )
وإذا جاءت الأمور على خلاف ما يريد كان يقول:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ))
( من سنن ابن ماجة: عن " السيدة عائشة " )
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم كريم كل قوم، هكذا علَّمنا..
((أنزلوا الناس منازلهم))
( من الجامع الصغير: عن " السيدة عائشة " )
((أكرموا عزيز قومٍ ذل، وغنيٍ افتقر، وعالِمٍ ضاع بين الجهَّال))
كان عليه الصلاة والسلام يكرم كريم كل قوم ويقول:
((إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ))
( من سنن ابن ماجة: عن " ابن عمر " )
إنسان كان له عمل معيَّن، كان له شأن، كان غنيًا فافتقر، الإنسان مطلوب منه أنْ يحترمه احترام زائدًا، هكذا علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلَّم.
روى الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه قال:
((لمَّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلَّم أتيته فقال: ما جاء بك ؟ قلت: جئت لأسلم، فألقى إليَّ كساءه، وقال: إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
من شدة فرح النبي اللهمَّ صلِّ عليه ألقى إلي كساءه.
وفي رواية البزَّار:
((أتيت النبي صلى الله عليه وسلَّم فبسط إليَّ رداءه وقال: اجلس على هذا، فقلت: أكرمك الله كما أكرمتني))
وروى الحاكم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلَّم دخل بعض بيوته، فدخل عليه أصحابه حتى غُصَّ المجلس بأهله وامتلأ، فجاء جرير البجلي فلم يجد مكاناً، فقعد عند الباب، فنزع النبي صلى الله عليه وسلَّم رداءه وألقاه إليه.. "
وهنا ملاحظة، كريم قوم لم يجد مكانًا، جلس عند الباب، فالنبي وهو يحدِّث أصحابه انتبه، فخلع رداءه، وألقاه إليه، وقال:
((اجلس عليه ))
ما هذه الأخلاق ؟
فأخذه جرير، هل جلس عليه ؟ أخذه جرير فألقاه على وجهه وجعل يقبِّله ويبكي، ورمى به إلى النبي وقال:
((ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي صلى الله عليه وسلَّم يميناً وشمالاً، وقال: إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
خلع رداءه وألقاه إليه وقال:
((اجلس عليه))
فأخذ هذا الرجل الكريم البجلي الرداء ووضعه على وجهه، وقبَّله، وجعل يبكي ويقول:
((ما كنت لأجلس على ثوبك يا رسول الله، أكرمك الله كما أكرمتني))
وعن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلَّم ألقى إليه وسادةً، فقال عدي:
((أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فسادا))
ليس في بيت النبي إلا وسادة واحدة، ألقاها لعدي وقال:
((اجلس عليها))
قلت: بل أنت، قال: " بل أنت "، فجلست عليها وجلس هو على الأرض، وأسلم عدي بن حاتم، وقال عليه الصلاة والسلام:
((إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه))
أحياناً، هكذا أنا أعرف في مجال التربية والتعليم، كان مدرِّس معنا عُيِّن مديرَ تربية سابقاً، كما كان سابقاً مدير ثانويَّة، والكمال يقتضي أن تعامله معاملة خاصَّة،
((أكرموا عزيز قومٍ))
وقد تواجه إنسانًا كان غنيًا وافتقر، فالمفروض أنْ تعامله على أعلى درجة وصل لها، ولو تركها.
وعن عبد الرحمن بن عبدٍ قال:
((قدمت على النبي صلى الله عليه وسلَّم في مئة رجل من قومي، فذكر حديثاً فيه أن النبي أكرمه، وأجلسه، وكساه رداءه، ودفع إليه عصاه، وأنه أسلم، فقال رجل من جلسائه: " يا رسول الله إنا نراك أكرمت هذا الرجل ؟ " فقال: " إن هذا شريف قومه، إذا أتاكم شريف قومٍ فأكرموه))
تعلَّموا أيها الإخوة،
((إذا أتاكم شريف قومٍ فأكرموه))
وفي حديث آخر:
((إذا كانت عندك كريمة قومٍ فأكرمها))
( من الجامع الصغير: عن " ابن عمر " )
امرأة كبيرة في السن لها شأن في أهلها أكرمها.
وعن شهاب بن عبَّاد أنه سمع بعض وفد عبد قيس يقولون: " قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ـ دقّقوا في هذه القصَّة ـ فاشتد فرحهم ـ أي الصحابة ـ فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، وفد عبد قيس جاؤوا النبي ليسلموا، والصحابة الكرام اشتد فرحهم، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، فرحَّب بنا النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا لنا، ثم نظر إلينا، وقال:
((من سيدكم وزعيمكم ؟ ))
فأشرنا جميعاً إلى المنذر بن عائد، فقال عليه الصلاة والسلام: " أهذا الأشَج "، قلنا: نعم يا رسول الله.
فتخلَّف بعض القوم، فعقل رواحلهم وضمَّ متاعهم، ثم أخرج عيبته ـ أي ما يوضع فيه المتاع ـ فألقى عنه ثياب السفر، ولبس من صالح ثيابه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلَّم وقد بسط النبي رجله واتَّكأ، فلما دنا منه الأشج أوسع القوم له وقالوا: "هاهنا يا أشج " فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم، واستوى قاعداً وقبض رجله: " هاهنا يا أشج ". فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فرحَّب به وألطفه، وسأله عن بلاده، وسمَّى له صلى الله عليه وسلَّم قرية قريةً وغير ذلك من قرى هَجَر، فقال الأشج: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء بلادنا منا ".
فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إني وطئت بلادكم وفُتِح لي فيها ))
ثم أقبل عليه الصلاة والسلام على الأنصار فقال:
(( يا معشر الأنصار أكرموا إخوانكم فإنهم أشباهكم في الإسلام، أشبه شيءٍ أشعاراً وأبشاراً، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين ـ أي ولم يكونوا مصابين بمصيبة ـ إذ أبى قومٌ أن يسلموا حتى قُتلوا ))
قال: فلما أصبحوا قال عليه الصلاة والسلام:
(( كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم ؟ وضيافتهم إيَّاكم ؟ ))
قالوا: خير إخوان، ألانوا فرشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلِّموننا كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسُنة نبينا صلى الله عليه وسلَّم، فعجِب النبيُّ وفرح لمَا حدث.
في هذه القصَّة أدق نقطة وهي: قال عليه الصلاة والسلام:
(( هؤلاء إخوانكم إنهم أشباهكم في الإسلام، أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين ))
لا مكرهين ولا أنّهم أسلموا عقب مصيبة، بل هم في قوتهم، وصحَّتهم، وشدَّتهم، واختيارهم أسلموا، معنى ذلك أنّ الإسلام الذي يكون عن مبادرةٍ منك، لا عن قهرٍ، ولا عن خوفٍ، ولا عن مصيبةٍ، ولا بعد شبح مصيبةٍ، ولا بعد قلقٍ، هذا إسلام له وزنه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هكذا أخلاقه مع أصحابه، ومع الوفود بالترحيب، التكريم، ويعرف كل قوم مَن رئيسُهم، مَن زعيمُهم، مَن سيِّدُهم، له معاملة خاصَّة.
وسوف نتابع هذا الموضع إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ذو شجون، والحديث عن أخلاقه يبعث في النفس السعادة والسرور، كيف لا ؟ فإذا ذُكر الصالحون تتنزَّل الرحمة، فكيف إذا ذُكر سيِّد الصالحين، وسيد الأنبياء والمرسلين ؟ هذه أخلاقه. قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 31 " )