لم تجد الصحف الإسرائيلية في الأيام الماضية، تعبيراً أدق لتوصيف إعلان عدد من حاخامات الصهيونية الدينية التمرّدَ على سياسة التهويد المتشددة، التي تطبقها الحاخامية الرسمية لإسرائيل، من تعبير "تمرّد التهويد". ويأتي التمرّد إثر قرار عدد من حاخامات تيار الصهيونية الدينية، تجاوز كل الصلاحيات الرسمية في إسرائيل، خصوصاً في موضوع تحديد "الشخص اليهودي من غير اليهودي" ممّن هاجروا إلى فلسطين المحتلّة.
ويقوم المتمرّدون بعملية "تهويد" مستقلة لمجموعة من الفتية الإسرائيليين، الذين يصفهم القانون الإسرائيلي رسمياً، تحت وطأة هيمنة الحريديم، بـ"معدومي الدين"، أي أنهم ليسوا يهوداً وفق الشرائع اليهودية المتشددة، ولكنهم أيضاً ليسوا مسيحيين أو مسلمين أو بوذيين، لأن والدهم أو أحد أجدادهم، كان يهودياً، فيما انقطعت سلسلة يهوديتهم من طرف الأم، أو الجدة.
وأعادت هذه الخطوة النقاش الدائر لدى الاسرائيليين منذ اغتصاب أرض فلسطين، حول "تعريف الشخص اليهودي"، بالإضافة إلى تحديد صاحب الكلمة الفصل في تحديد هوية المهاجرين إلى فلسطين. مع العلم أن القوانين المعمول بها، وفق التسوية التاريخية بين دافيد بن غوريون والتيار الأرثوذكسي الحريدي، قضت بترك قضايا الدين والهوية اليهودية لسلطات الحاخامية اليهودية، في مقابل قبول هؤلاء بإعلان قيام إسرائيل، وعدم نزعهم الشرعية الدينية عن اليهود الصهاينة، وعدم اعتبارهم خارجين عن الدين اليهودي، تماماً كالمهاجرين الذين وصلوا إلى فلسطين بعد العام 1967.
ولم تشهد العقود الأولى لقيام دولة الاحتلال هذا الخلاف الحاصل اليوم، بفعل اعتبار جميع من وصلوا يومها في العام 1948، خصوصاً من أوروبا الغربية والوسطى يهوداً ذوي جذور يهودية واضحة. كما أن الحريديم الأرثوذكس، لم يكونوا بالقوة التي هم عليها حالياً. إلا أن العقدين الأخيرين من القرن الماضي، شهدا تفجّراً للنقاش، بعد جلب أكثر من مليون روسي لإسرائيل، تبيّن لاحقاً أن نحو 400 ألف شخص منهم، على الأقلّ، وفق المقاييس الرسمية لإسرائيل ليسوا يهوداً، إنما هم متزوجون من يهوديات أو أن آباءهم ليسوا يهوداً.
ورغم كل محاولات الصهيونية العلمانية، سواء في اليمين أو اليسار، الاعتراف بيهودية الـ400 ألف روسي، غير أنه تبيّن لاحقاً أن "المؤسسة الدينية الأرثوذكسية"، قامت بوضع سجلات "سوداء" لهم ولأبنائهم، تحت شعار "الممنوعين من الزواج وفق طقوس يهودية توراتية تقليدية".
وتحاول الصهيونية الدينية، التي يمثلها حزب "البيت اليهودي"، الذي يدمج بين الاعتراف بالصهيونية كحركة التحرر القومي اليهودي وبين نمط حياة ديني، بما في ذلك خلال الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، إقناع الحاخامية الدينية الأرثوذكسية بوجوب إبداء المرونة معهم، تحديداً في حالات مقتل بعضهم أثناء عملهم في صفوف جيش الاحتلال.
أما الحريديم، ممثلين بالحاخامية الرسمية (الشرقية والغربية) فيصرّون على "حرفية" النص التوراتي، في تحديد هوية اليهودي، أكان المولود لأم يهودية، أو من مرّ بعمليات تهويد متشددة، يدرس خلالها التعاليم اليهودية، ويعيش حياة يهودية. على أن عملية التحديد، تبقى مرهونة بامتحانات وإجراءات مهينة، يرفضها المهاجرين الروس، وأيضاً اليهود الأميركيين، الذين ينتمون للحركات اليهودية الإصلاحية والمحافظة، التي تعتبرها الحركة الأرثوذكسية "يهودية منقوصة"، لا تمنح صاحبها حرية الانتماء لليهود من دون "تصحيح معتقداته ونمط حياته".
وفي السياق، تنظر المؤسسة الدينية اليهودية في إسرائيل بخطورة بالغة لخطوة الحاخامات "المتمرّدين"، الذين وافقوا على تهويد الفتية المُعتبرين "معدومي الدين"، واعلانهم عن تشكيل سلسلة محاكم توراتية وظيفتها وهدفها توفير جهاز تهويد بديل. مع العلم أن نشاطهم لا يحظى بأي اعتراف رسمي من قبل وزارة الداخلية الإسرائيلية ولا الحاخامية الرسمية، التي يُنتظر أن ترفض هذه العملية، استناداً إلى قوّتها السياسية، المتمثلة بوجود حزبين أرثوذكسيين في حكومة بنيامين نتنياهو، وهما "يهدوت هتوراة" و"شاس".
وكان الحزبان قد وافقا على المشاركة في الحكومة، بعد موافقة نتنياهو على عدم مواصلة عملية تشريع "قانون التهويد"، الذي حاول حزب "ييش عتيد" بقيادة وزير المالية السباق يئير لبيد تمريره في ولاية الحكومة السابقة، بدعم من حزب "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان، الذي يمثل بالأساس المصوتين الروس.
والواقع أن محاولات تعديل وتخفيف شروط الاعتراف بيهودية المهاجرين الوافدين، خصوصاً من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، ودول أميركا الشمالية، لم تتوقف من أواخر القرن الماضي. غير أن كل هذه المحاولات كانت تتحطّم على صخرة رفض الأحزاب الحريدية، التي سعى كل من حزبي "معراخ" (الذي مثل حزب العمل) والليكود، إلى ضمان تأييدها له عند تشكيل الحكومات بعد الانتخابات النيابية.
وتمكنت أحزاب الحريديم من استغلال ذلك، عبر التأكيد دائماً على مواصلة الوضع القائم في كل ما يتعلق بفصل الدين عن الدولة، من حيث الاحتفاظ بهيمنة جهاز التيار الأرثوذكسي الحريدي بصلاحياته واحتكاره مسألة التهويد. كما يطال الأمر أيضاً محافظة التيار على مواقع النفوذ والمصالح الهائلة المرتبطة بذلك، مثل تعيين مراقبي "كوشير" في مختلف المنشآت العامة والمطاعم، وتعيين "القضاة" والمحكمين في المحاكم الرابانية الدينية اليهودية، وتوفير جهاز هائل من الموظفين في كل مفاصل الدولة.
لكن حركة "التمرد" التي أعلنها عشرات الحاخامات واختاروا لها مستوطنة "ألون" في الضفة الغربية، قد تكون هذه المرة مفصلية، لناحية عصيان وتمرّد حاخامات التيار اليهودي الصهيوني على شرعية احتكار التيار الأرثوذكسي الحريدي في موضوع التهويد.
ويتزامن "التمرّد" الحالي مع إطلاق وزير التربية والتعليم وزعيم حزب "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، مشروعاً جديداً، يهدف إلى محاولة تقريب يهود الولايات المتحدة ويهود الخارج من الحياة اليهودية التقليدية، أو على الأقلّ غير المتديّنة، كما هي في إسرائيل.
ويهدف مشروع بينيت إلى منع ووقف الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود، الذي "يُهدّد"، بحسب المعطيات الإسرائيلية، مستقبل "نقاوة" الجاليات اليهودية الأميركية، لا سيما أن قسماً كبيراً من أفرادها ينتمون للتيارين الإصلاحي والمحافظ، الذي لا يرى بأساً في "الزواج المختلط"، أو لا يعتبرون أن "عدم يهودية الأم تؤثر على أبنائها إذا كان الوالد يهودياً". ومع أن بينيت امتنع عن تأييد خطوة الربانيين الذين قاموا بعملية التهويد المذكورة، إلا أنه لم يعارضها بل أثنى على النوايا التي تقف ورائها.
أما الحاخام اليهودي المتطرّف، وأحد أبرز غلاة المستوطنين وقادة حزب "تحيا" المتطرف في السابق، حاييم دروكمان، فقد عارض المبادرة، خوفاً من أن "تُشرّع خصخصة خدمات التهويد وفق الشريعة اليهودية وتؤدي إلى هدم للحياة الدينية في الدولة".