في السودان والجزائر ربيع ونص !

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

في الزمن المتوحش، الشعبان السوداني والجزائري يعيدان الاعتبار لكل الشعوب العربية التي غُدرت ثوراتها، وأصبح يطلق عليها "ما يسمى الربيع العربي". شعبان امتلكا الشجاعة فأعادا الاعتبار لحق الشعوب في طرح مطالبها المشروعة في الخبز والحرية والعمل والكرامة بما في ذلك تغيير نظام الحكم وشكله، وإنهاء التسلط والاستبداد وخنق الحريات. 
منذ اندلاع الانتفاضات والثورات العربية، تكالبت الثورة المضادة والتدخلات الخارجية والأنظمة المستبدة، وعملت جميعاً على وأد الانتفاضات الشعبية الضخمة.  
وذلك عندما جرى وضعها أمام خيارين لا ثالث لهما الأول: تدمير البلدان وسحق الشعوب المنتفضة، الثاني: بقاء الأنظمة المستبدة إلى الأبد، وكانت تونس هي الاستثناء الوحيد التي خرجت بخيار ثالث ينطوي على مستوى من تغيير في شكل الحكم مع بقاء النظام. 
خياران أحلاهما مر. والأسوأ من ذلك، أصبح نموذج سورية وليبيا واليمن ومصر يقذف في وجه كل نضال ديمقراطي وسلمي يطالب برفع الظلم والإصلاح وتأمين العمل والخبز. 
والنتيجة شطب التغيير من أجندة كل البلدان، وبفعل ذلك يبقى الرؤساء والحكام حتى الوفاة،  ومن حقهم توريث الأبناء للحكم، والبلدان هي ملك حصري للحكام الذين يقررون كل شيء، والشعوب تبقى في خانة الرعية التي تسمع وتطيع.    
الشعب السوداني لم ينتفض بأوامر أميركية وغربية، ولا بمؤامرة إسرائيلية، فالنظام منذ فترة وهو يخطب ود أميركا وإسرائيل، ويبرم تفاهمات أمنية ولوجستية - الطيران الإسرائيلي يمر عبر السودان كما أشار نتنياهو-. 
وهو جزء من التحالف العربي في حرب اليمن المستمرة منذ العام 2015. الشعب السوداني انتفض على خلفية رفع أسعار الخبز والوقود وارتفاع نسبة البطالة والوضع الاقتصادي المزري والخانق الذي لم يعد يطاق. 
النظام الحاكم منذ 30 عاما هو وبحسب أكثرية الشعب، المسؤول الأول عن الأزمات التي كانت الحصاد المر لمغامراته في حربين أهليتين مع إقليمي دارفور وجنوب السودان اللتين كلفتا الشعب السوداني مئات آلاف الضحايا قتلى وجرحى فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الضخمة لا سيما خسارة ثلثي النفط السوداني. 
وتفاقمت الأزمات بسبب الفساد المستشري في أجهزة الدولة إضافة للصراع بين مراكز القوى. وفي ظل الأزمات الطاحنة لم يبق لدى الشعب السوداني ما يخسره غير القيود، فلجأ إلى الانتفاض والاحتجاج السلمي المنظم في محاولة للخروج من الأزمة، مقدما مطالبه المشروعة،  أولا برحيل الرئيس عمر البشير الذي مكث في الحكم 30 عاما، وبانتخاب رئيس وحكومة ومجلس نواب، ووضع خطط للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة. مطالب لا شك مشروعة تحظى بتأييد من أكثرية الشعب المطلقة. 
الخطاب الصادق والواضح الذي قدمه المنتفضون السودانيون حاز على احترام وإعجاب وتأييد العالم، لكنه قوبل برفض وقمع وتشكيك من قبل النظام وحكومته، التي لم تتوان عن الاستعارة من الأنظمة الشقيقة، تهمة ضلوع المحتجين بمؤامرة خارجية هدفها تدمير الدولة وتقسيم السودان وإدخاله في فوضى شاملة. 
تهمة لا تعني غير رفض المطالب وقمع المحتجين، وبقاء النظام والرئيس في سدة الحكم. اللافت أن النظام يحاول تقديم التنازل لدول إقليمية - وبخاصة لإسرائيل - ولإدارة ترامب كي يبقى مقبولا وقادرا على كبح شعبه. 
مقابل ذلك فإن الشعب السوداني يواصل الاحتجاج المنظم والعفوي السلمي، وليس أمامه من خيار غير انتزاع مطالبه المشروعة أو جزء منها، مستفيداً من خبرة الانتفاضات العربية متجاوزا أخطاءها مظهرا حساسية تجاه التدخلات الخارجية، خلافا للنظام الذي يحاول الاستعاضة عن شرعيته الداخلية بشرعية خارجية. 
هل سيشدد النظام من قمعه محاكيا أشقاءه الذين سحقوا ثورات شعوبهم؟ أم أن التوازنات داخل النظام من جهة وبين النظام والمعارضة والشعب من جهة أخرى، وفي الإقليم - التدخلات - لا تسمح بحسم دموي. 
الشعب الجزائري بدوره شارك الشعب السوداني في إعادة الاعتبار للشعوب العربية.
ويبدو أن الشعب الجزائري استخلص الدروس وقدم أداءً يثير الإعجاب، عندما اعتمد الاحتجاج السلمي المنظم.
وأكد تمسكه بالدولة وباستعداده للدفاع عنها، بل لقد قام بحماية الشرطة في بعض المواقع المكتظة بالمحتجين. 
ولخص مطالبه برفض التجديد للرئيس بوتفليقة لولاية خامسة، وبتكليف حكومة انتقالية تمثل ألوان الطيف السياسي، وباعتماد لجنة لتجديد العقد الاجتماعي - الدستور - وصولا إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، تشكل محطة مهمة في تجاوز أزمة النظام الذي يسيطر عليه العسكر منذ أمد طويل. 
لم يستجب النظام وأعاد ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة، لكن الذين صاغوا القرار أخذوا في الاعتبار الاحتجاجات السلمية التي عمت معظم الولايات في الجزائر، ووعدوا بإجراء انتخابات بعد عام واحد.
إن هذا العرض يضفي مشروعية على المطالب الشعبية، ويطرح أهمية وجود فترة انتقالية دون انتخابات الولاية الخامسة للرئيس راهنا. 
فترة انتقالية يشارك فيها كل ممثلي مكونات الشعب الجزائري ولا تقتصر على طرف واحد هو المؤسسة العسكرية التي اعتادت على عدم احترام الديمقراطية. 
ثمة فرق جوهري بين إقصاء الشعب والقوى السياسية والنقابية والمعارضة بكل ألوانها، وانفراد العسكر بهندسة المرحلة القادمة، وبين مشاركة كل الأطراف واحترام الحريات على قاعدة اتفاق الجميع على رفض الفوضى التي دفع الشعب الجزائري قرابة الـ 200 ألف ضحية حصيلتها وعدم العودة لمرحلة العشرية السوداء. 
ولا يكون ذلك بغير الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية. لقد شاخ النظام ولم تتمكن جبهة التحرير من تجديد الحكم ولا تجديد نفسها.  
وإذا كان التطرف والفوضى قادا الجزائر إلى أزمات طاحنة هددت الاستقرار، فإن حكم العسكر هو جزء من الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام والتي حالت دون تطور البلد الذي يملك مقومات بشرية ومادية للتطور في مختلف المجالات. 
الانتفاضة الحالية تفتح الأبواب أمام عملية إعادة بناء تعيد للجزائر عافيتها ودورها التاريخي التحرري المعنوي الذي انحفر عميقا في وجدان كل الشعوب التي تنشد التحرر والاستقلال. 
تجربة السودان والجزائر، كشفتا أيضا عن ضعف دور التنظيمات والأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني في تنظيم الاحتجاجات والارتقاء بها. 
الضعف يعود إلى سياسة القمع والاستئناس من قبل النظام. وهذا يترك المجال أمام الحركات الاجتماعية ومجموعات الشباب الذين يستندون إلى وسائل التواصل الاجتماعي ويفتقدون للخبرة النضالية، وكان هذا الغياب أحد عناصر الضعف التي ساهمت في هزيمة الانتفاضات في هجوم الأنظمة والثورة المضادة المعاكسين. هل يتفادى المحتجون هذه الثغرة بمثل ما تفادوا الثغرات الأخرى. 
وكشفت التجربتان أيضاً عن ضعف حضور الإسلام السياسي في البلدين، ربما يعود إلى واقع تمثيل نظام البشير للإسلام السياسي، وواقع ارتباطه بالعشرية السوداء في الجزائر، وقد ساهم  ذلك في انزوائه إلى هامش المشهد.