منتحلو الغيرة على الدستور

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

بقلم: عدلي صادق



بخصوص الشأن الداخلي المصري، يثابر إعلام جماعة "الإخوان" على التعرض لمقترحات مفترضة لتعديل مواد من الدستور، يُقال إنها تتعلق بالتمديد لرئيس الجمهورية. وعلى الرغم من ذلك، لا تُطرح في سياق هذه الحملة، كلمة واحدة في امتداح الدستور الذي يجري التظاهر بالغضب من المساس به. ومعلوم أن هذا الدستور نفسه، هو الذي تعرض للهجوم الإخواني الضاري قبل أن يُعرض وأن تُعرف وجهته، أي قبل تشكيل لجنة الخمسين التي صاغته، وقبل أن تنتهي لجنة الخبراء والفقهاء الدستوريون العشرة من عملها في أغسطس 2013، وقبل أن تصادق عليه لجنة الخمسين وتطرحه للاستفتاء الشعبي، في يناير 2014 . فقد رأت جماعة "الإخوان" في هذا الدستور وثيقة إقصائها، لكن هذه الوثيقة، حازت على نسبة تأييد عالية جدا، إذ انعكس زخم الحشود الشعبية في 30 مايو 2013 على صناديق الإقتراع. بينما الدستور الذي سبقه، وعُرض للاستفتاء في فترة الرئيس مرسي، وصوّت عليه المصريون في مرحلتين، اعترض عليه 36% ممن أدلوا بأصواتهم.

تمر مصر بمرحلة صعبة ومعقدة، تواجه فيها مخاطر تتهدد الأمن القومي، وهذا ما يهمنا التركيز عليه، لكي نؤكد على خطأ إلهاء الناس بمسائل جانبية والتنطع فيها. فحين يستنفر إعلام الجماعة، لكي يتصدى من بعيد لتدابير برلمانية تتعلق بتعديلات دستورية، بينما "الإخوان"  في ثقافتهم وطوال تاريخهم، كانوا ولا يزالون ضد  كل الدساتير أصلاً ويصفونها بأنها "وضعية"، نكون بصدد نوع ممن المراءاة والنفاق والتمحك. ففي الرأي الإخواني المستقر، ليس الدستور إلا بدعة،  والبدعة قرينة الضلالة التي مستقرها النار!

طوال تاريخ المصريين منذ الإستقلال الناقص بموجب التصريح البريطاني اللئيم  في  28 فبراير 1922 كان الدستور بالنسبة للشعب هو المعادل الموضوعي للاستقلال. أعلن فؤاد الأول على أثر ذلك التصريح عن تأسيس النظام الملكي وجعل نفسه ملكاُ ودعا الى صياغة دستور 1923 وأعلن الملك عند بدء الحياة البرلمانية في مارس 1924،  وليت هذه الحياة البرلمانية صمدت أو استمرت واستقرت. فقد كان هناك سجال سياسي لم يتوقف لحظة، دفاعاً عن الإستقلال التام الذي يرمز اليه دستور يلائمه. ومن المفارقات، أن جماعة "الإخوان" عندما تأسست بعدئذٍ،  لم تتحالف إلا مع ألد أعداء الدستور في التاريخ المعاصر بل مع عدوه الوحيد وهو إسماعيل صدقي مماليء الإنجليز والقصر، الذي ألغى دستور 23 واستبدل به دستوراً يعكس نزعة الرضوخ لبريطانيا. وبعد أن فعل ذلك كان الرجل فاقداً لصداقة حتى الموالين الخفاف لبريطانيا، لكنه ظل صديقاً لجماعة "الإخوان" علماً بأن أحداً في تاريخ الدولة المصرية بعد الإستقلال، لم يبطش مثله بالمصريين. ففي عهده كان يُستدعى الى الأقسام للتحقيق، رؤساء وزارات سابقون، ورجال دين ومشايخ أزهريون، وكانت التظاهرت الطلابية تُضرب بالرصاص،  وتُعطل الصحف ويؤخذ الصحفيون الى المحاكم، وتنطلق القبضة الأمنية على كل ألوان الطيف، ولم يكن للمستبد أي صديق سوى الجماعة، بل إن خطيباً إخوانياً في الحركة الطلابية، حيّاه في خطاب أمام طلبة جامعة القاهرة وخلع عليه الآية الكريمة "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياُ"!

على الرغم من ذلك، كانت الجماعة ولا زالت تختزن العداء للوطنيين من رموز ورجال ثورة يوليو، الذين طووا حقبة الخنوع المهين للسفارة البريطانية، وساندهم في مشروعهم التحرري، النابغون والعلماء ورجال الدولة المفعمون بالوطنية، والأدباء والعلماء والفنانون، وارتقت في عهدهم وتوسعت الثقافة والتعليم، وصعد الى أعلى المستويات الدور السياسي لمصر، ما اقتضى أن تتكالب عليها قوى الاستعمار والصهيوينة وقوى التخلف والذيلية في العالم العربي!

 اليوم تطرح الجماعة نفسها غيورة على الدستور الذي رفضته وهاجمته ورأت فيه وثيقة إقصائها، وهي لا زالت تترحم على الأيام التي كان فيها المندوب السامي البريطاني هو الذي يحكم ويعاقب الملك ورؤساء الوزارات. لكن الجماعة اليوم تغضب لمجرد احتمال أن تمتد ولاية  رئيس الجمهورية، وكأنها تؤمن بالتداول السلمي على السلطة لو إنها حكمت، أو كأنها من أنصار المدد المحددة والوجوه المتغيرة.

ما تتطلع اليه مصر اليوم، ولن تحيد عنه، هو إلحاق الهزيمة بالإرهاب الخائن الكافر، والاستمرار في التنمية، وتوسيع مصادر الثروة والحث على بذل الجهد وتضييق مساحات السجال العقيم، لكي يخسر المتربصون للبلاد رهانهم على سقوط الدولة!