16 آب 2015
من يراقب السلطة في العالم العربي ومن يرى طبيعة العلاقات التي تنبني في إطارها أو في علاقتها مع باقي المؤسسات والشرائح يقول ببساطة: «ليس هكذا تدار الأوطان» وربما يدرك حينها واحداً من أبرز العوامل التي اعترت حالة الضعف العربي وأدت إلى تآكل الدول والشعوب، فالهوة بين العرب والعالم كبيرة جدا ويلاحظ أنها تزداد اتساعا في شتى المجالات، وبينما العالم يسير للأمام نسير نحن للخلف أو في أحسن حالاتنا نقف مكاننا عاجزين عن الحركة.
ليس صدفة أن 2 مليون شهادة دكتوراة في العالم العربي «إحصائية قديمة» لم يستفد العالم من أي بحث أو أي منها قدم للعالم اكتشافا أو اختراعا أو معلومة جديدة أضافت للعلم ما ساهم بتقدمه، وليس صدفة أن أبناء الزعماء العرب يتعلمون خارج جامعات العرب، وليس صدفة أن يعالج أي زعيم عربي خارج مستشفيات العرب، ومن عجز عن بناء جامعة أو مستشفى هل يمكن أن يبني دولة متقدمة ؟ سؤال طبيعي يستدعيه الواقع العربي الذي يحجز لنفسه مكانا ومكانة في ذيل الأمم وعلى هامش الحضارة وهو غارق في استدعاء الماضي للتغلب على حاضر ضائع ومستقبل مجهول.
لقد تمكنت دول العالم المتقدم من صياغة علاقة سوية بين ثلاثة عناصر إدارية تكاملت لتنتج هذا المستوى من التقدم في الصحة والتعليم وحقوق الإنسان والاقتصاد وغيره، هذه العناصر هي المفكر والسياسي والأمني، وقد حددت تراتبية العلاقة بينهم حيث وضعت المفكر في مستوى أعلى من السياسي والسياسي أعلى من الأمني كجهة منفذة فقط، فمرجعية رجل الأمن هي السياسي ومرجعية السياسي هي المفكر أو المثقف الذي يضع التصورات النظرية والقادر على اشتقاق خصوصية المصلحة الوطنية من عمومية الثقافة الإنسانية وتجربة التاريخ، وتلعب مراكز الدراسات في العالم الدور الأبرز في تحديد السياسات بل وتحدد السياسة للرئيس ليقرر بها وفقا للإمكانيات والعلاقات ثم يحيلها للجهات التنفيذية ومنها أجهزة الأمن.
عادة ما نقرأ عن لقاءات بين رئيس دولة ما وكاتب أو مفكر أو خبير يستمع منه ما يمكن أن يأخذ به في إدارة الدولة أو بنائها الحديث، إذ يحظى المثقفون والمفكرون في العالم باحترام كبير باعتبارهم عقول الدولة كما قال ذات يوم الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان عندما تدخل لصالح المفكر الفرنسي ميتشيل الذي قام بقتل زوجته وقد برر ديستان تدخله قائلا: «عار على فرنسا أن تعتقل عقلها».
في العالم العربي، الهرم معكوس تماما ينتصب واقفا على رأسه، فالعقول العربية سجنت وعذبت وتمت ملاحقتها إلى أن وجدت نفسها طريدة على أرصفة عواصم الغرب، ومن تبقى عومل باحتقار وشك كبيرين، إذا اعتبرته السلطة في خانة معادية وجب تحجيمه وتقليم أظافره وتطويعه بشتى السبل وقد تكفل الأمن العربي بمهمة إخصاء المثقفين وتدجينهم سواء بالترهيب أو بالترغيب، فأقصيت العقول ولم يبق سوى الحاكم وجهازه الأمني يحكم بلا عقل.
في العالم العربي أصبحت أجهزة الأمن هي من يحدد الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء والسياسيين ليصبح السياسي في خدمة الأمني، وهذا السياسي أراد أن يكون مرجعية المثقف وبذلك أصبح الأمن في أعلى السلم والمثقف أو المفكر في أدنى درجاته، بل إن ما ارتكبته السلطة ضد المثقفين أدى لهروب معظمهم، ومن لم يهرب تعيش معه السلطة في حالة عداء وتربص تنتظر سقوطه، وتعمل أجهزة الأمن ليل نهار تراقب كل تحركاته وتجلس في فنجان قهوته وتعد أنفاسه علها تعثر عما يمكنها من تركيعه أو كسر أنفه وقلمه ...تكسرت أقلام العرب كما تكسر واقعهم ومن لم ينكسر تمت محاربته في لقمة عيشه، وقد عاش كثير من المثقفين العرب على الكفاف وتمت محاصرة عقولهم بهجوم الحياة وفقرها، أغلقت كل المنافذ في وجوههم إلا طريق الهروب من الأوطان فيما عاش رجال الأمن في المنطقة العربية الحياة بطولها وعرضها وارتفاعها وسقوطنا، والنتيجة أن لدينا أجهزة بوليسية بدءا من الحرس الجمهوري وانتهاء بما أنتجه العقل العربي من أجهزة رقابة وتلصص أعدمت الحياة المدنية وأحدثت شللا في كل مناحيها ولم يكن همها سوى الحفاظ على أنظمة عجزت عن بناء جامعة أو مستشفى.
هناك حادثة تروى عن مواطن ألماني تصادف وجوده بجانب غرفة الرئيس المصري السابق حسني مبارك عندما كان يعالج هناك، سأل المواطن عن الضجة التي تثيرها الغرفة المجاورة فقيل له: هذا زعيم عربي، فسأل: منذ كم سنة يحكم؟، قيل له: ثلاثة عقود، فقال: هذا دكتاتور وفاسد، دكتاتور لأنه أمضى في الحكم ثلاثين عاما، وفاسد لأنه لم ينشئ مستشفى واحدا يتعالج فيه، هذا فيما كان مثقفو مصر ومفكروها لديهم الكثير مما يقولونه عن الدولة ونظامها ولديهم من الأفكار ما كان بإمكانه إعادة مصر إلى موقعها الطليعي والطبيعي كرائدة للعالم العربي بدل أن تنحدر في العقود الثلاثة وتفقد دورها الإقليمي يطحنها الفقر وسوء الإدارة وتتحول كما قال الرئيس المصري السابق نفسه إلى «خرابة» كما نقل عنه الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه الأخير «مبارك من المنصة للميدان» فقد عرض حوارا بين الرئيس المصري السابق وموفد خليجي يسأله عن توريث ابنه للحكم فرد مبارك «أورثه خرابة ؟» وعلق هيكل في الكتاب قائلا: «لم يسأل المسؤول الخليجي مبارك كيف تحولت مصر إلى خرابة».
كل البلدان العربية تحولت إلى خرابات أو هكذا انتهت عندما تربص الكل بالكل وخاف الجميع من الجميع حين حكمتها قوة العضلات لا قوة العقل، قوة السلاح لا قوة الفكر.
وأخشى أننا نعيد استنساخ التجربة العربية بكل مآسيها وعجزها، فالمثقف الفلسطيني والمفكر حالة منبوذة في النظام السياسي وما أنشئ من أجهزة أمنية لدى السلطة وحركة حماس يتربصان به وزاد على ذلك مسلحو الفصائل الذين يعتقدون أنهم فوق الجميع، قال أحد الأصدقاء الذي كان صحافيا مشهورا في بيروت إن بعض المسلحين الذين كانوا يأتون لمقر الجريدة كانوا يجلسون فوق المكاتب يسخرون من عمل الكتاب قائلين «أنتوا بتوع المكاتب والقلم» على اعتبار أنهم من يقودون المعارك، إنها سيكلوجية السلاح والقوة التي تحتقر غيرها .. أخشى أننا ورثنا كل ذلك .. هي نصيحة للنظام السياسي بسلطته ومعارضته هناك الكثير من أساتذة الجامعات والخبراء والمفكرين .. لديهم ما يقولونه عن الحالة التي وصلنا لها، اسمعوا لهم أفضل من نشوة إقصائهم وإخصائهم ..!