يقترن تاريخ عيد المرأة في تونس بإصدار مجلة الأحوال الشخصية يوم 13 أغسطس عام 1956 أي حال استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي، وهو تاريخ رمز لتحرير المرأة تزامنا مع تحرير الأرض من المستعمر الأجنبي، وإقرار أول رئيس للجمهورية التونسية آنذاك الحبيب بورقيبة تضمين هذه المجلة مجموعة من النصوص القانونية التي تكفل الحقوق الأساسية للمرأة والتي يأتي التعليم على رأسها. ما فعله بورقيبة في ذلك التاريخ كان بمثابة ثورة تمس الثقافة المجتمعية التي تهيمن عليها العقلية الذكورية، فمجتمع حديث العهد بالنظام الجمهوري جريح من مخلفات الاستعمار كالفقر والأمية كان من الصعب أن يتوقع منه تقبّل هذه الرؤية التنويرية وما تحمله من أفكار جديدة. مهما كانت الخلفيات والتفسيرات والقراءات التاريخية إلا أن الشعب التونسي استجاب لقائده وزعيمه بورقيبة ورفع عن المرأة صفات الحريم والعورة والوصاية.. لكن هذا لا ينفي وجود بعض الفئات الاجتماعية متحجرة العقلية التي تأخرت في الاستجابة وفي قبول تحرير المرأة لكن لقلتها لم تمثل حتى عينة للدراسة ولم تكن لها قدرة على حرمان المرأة التونسية من المساهمة في بناء الدولة الوطنية ولا تأثير في وصف المجتمع التونسي بالحداثي لأنه اعترف بدور المرأة الاجتماعي والمدني والاقتصادي ولاحقا السياسي في وقت مبكر مقارنة بغيره من المجتمعات العربية والإسلامية. بناء الدولة التونسية بدأ بإقرار الحقوق الأساسية للمرأة ومن ثم تطورت مكتسباتها في السنوات الموالية وفي ذلك أبعاد رمزية كثيرة منها الإقرار بمكانتها في مشروع بناء الجمهورية التونسية وبدورها كفرد في المجتمع قادر على الإسهام الفاعل في هذا البناء في حال توفرت له بيئة محفزة تضمن له أدنى مستويات الاعتبار الإنساني وتمتعه بحقوق لا غنى عنها كالحق في التعليم. هكذا برزت تونس في صورة الدولة الداعمة لحقوق المرأة تشريعيا وقانونيا عبر مجلة الأحوال الشخصية وعبر الإمضاء على المعاهدات والاتفاقات الدولية الخاصة بضمان حقوق المرأة مثل معاهدة “سيداو” لرفع جميع أشكال التمييز ضد النساء. وتطبيقيا عبر تعليم الفتيات وإقرار حقهن في إتمام تعليمهن والحصول على شهائد عليا وتمكينهن من المشاركة في الحياة الاقتصادية وبخوض غمار العمل في مختلف المجالات. وبتقدم السنوات حققت التونسيات نجاحات سواء في التعليم أو في العمل المجتمعي أو في الكثير من المهن فكنّ رائدات في مجالات عدة، وتعتبرن لدى نظيراتهن في العديد من الدول التي تأخرت في الاعتراف بمكانة المرأة مثالا يحتذى به في مسيرة كسب الحقوق. غير أن هذا لا يعني أن المرأة التونسية متمتعة بحقوقها كاملة وبصفة مطلقة وبأنها تعيش وضعية مثالية في المدينة الفاضلة بل إن وضع نساء تونس اليوم يؤكد أن تونس ليست المدينة الفاضلة وأن الجانب التشريعي مازال لا يستجيب لمطالب الحقوقيين، كما أن واقعها من حيث التمكين الاقتصادي والسياسي يكشف العديد من النقائص، إلى جانب تأثر وضعها بوضع البلاد الأمني والاقتصادي المتردي بسبب تركة سنوات الحكم الجائر وتركة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة الإسلامية. شاركت المرأة في الثورة التونسية مثل مشاركة الرجل وغصت بهما الشوارع في المظاهرات معا وسقطت من النساء شهيدات واحتفلت كما بقية أفراد المجتمع بسقوط نظام بن علي وبنسمات الثورة التي حملت معها آمالا وطموحات أكبر للتونسيين نساء ورجالا، بل يمكن القول إن انتظارات النساء كانت أكثر من الرجال فقد حلمن بتحقيق المساواة وباستكمال محصلة الحريات والحقوق وبلوغ التمكين الاقتصادي والسياسي وخاصة المشاركة السياسية في المراكز القيادية والمناصب العليا في الدولة. الرياح تجري بما لا تشتهي السفن مثلما جرت رياح الثورة التونسية بما لا يشتهي رجال ونساء تونس، وقبل المصادقة على الدستور التونسي الجديد العام الماضي وخلال حكم الترويكا لتونس برئاسة إسلامية عاشت التونسيات التخوف من تراجع المدونة التشريعية والحقوقية للمرأة ومن تراجع المجتمع وتدحرجه نحو التشدد الديني وهو خوف تمخض عن دخول الإسلام السياسي إلى المشهد السياسي التونسي وذلك بصنفيه المعتدل والراديكالي، وما بدر من ممثليه من تلميحات ونوايا وتصريحات في تحجيم المرأة بحجج مختلفة. غير أن المرأة التونسية لم تتراجع عن مكتسباتها وعن مطالبتها بالمزيد بسبب هذا الخوف بل وقفت وقفة حازمة جعلت الراغبين في إرجاعها إلى عصر الظلمات يراجعون حساباتهم العديد من المرات. انتقلت نساء تونس من مرحلة التنصيص عن الحقوق وتطبيق الموجود منها إلى مرحلة الذود عن المكتسبات أمام صعود التيارات الدينية وأخيرا إلى مرحلة مقاومة الإرهاب هذا الطارئ الذي فتح ما يسمى بالربيع العربي الأبواب أمامه ليبرز ويضرب بقوة في دول الثورات فأصبحت تونس ما بعد الثورة مجالا لانتشار هذه الظاهرة التي عمقت معاناة التونسيين من ظرف اقتصادي وسياسي واجتماعي مترد وجعلت النساء في قلب الرحى وفي محور المقاومين للإرهاب. وللمرأة عموما دورا مركزيا في حماية ووقاية أفراد المجتمع من الشباب والأطفال من الأفكار المتشددة والإرهابية فهي الأم المدرسة وهي الأخت والصديقة والزوجة والابنة وهي المعلمة في المدارس وهي دوما في مواقع وأدوار تجعلها قريبة من الأجيال الصاعدة وهي ذاتها الأدوار التي تجعلها بوعيها ومستواها التعليمي قادرة على لعب دور الوقاية والحماية من الإرهاب من جهة، وهي التي يجب أن يتوفر لديها مستوى عال من الثقافة والوعي الذي يخول لها تحصين نفسها من استدراج الحلقات والمجموعات الإرهابية من جهة أخرى. أعلنت السلطات التونسية المرأة شريكا فاعلا في الحرب ضد الإرهاب وكل أشكال التطرف ولتكون قادرة على تحمل مسؤوليات هذه الشراكة يجب أن تتوفر لها الظروف الملائمة هذا ما جعل رئاسة الجمهورية ووزارة المرأة والأسرة والطفولة تعلنان في يوم عيد المرأة على جملة من القرارات الجديدة التي تهم تطوير مكاسبها من أجل التوصل إلى تكريس المكاسب الأساسية في الدستور ولا سيما المتعلقة منها بالمساواة بينها وبين الرجل وضمان التكافؤ بينهما في جميع الفرص وفي مختلف مجالات الحياة. وهو ما أكدته وزيرة المرأة بقولها إن المرأة التونسية لعبت دورا هاما في جميع مراحل تاريخ تونس، وهي في هذه المرحلة تسعى إلى إنجاح البناء الديمقراطي ومقاومة الإرهاب. تطوير المكاسب للتوصل لتحقيق المساواة كمشروع حكومي يبطن اعترافا بأن وضع المرأة التونسية اليوم مازال بعيدا عن تحقق العدالة الاجتماعية والتكافؤ في الفرص في جميع المجالات بين الجنسين وفي هذا الصدد تعمل وزارة المرأة والأسرة والطفولة باعتبارها الهيكل الحكومي الأفقي الراعي لمسائل النهوض بأوضاع المرأة على تدعيم حقوقها ومقاومة جميع أشكال التمييز ضدها وذلك من خلال تطوير المنظومة التشريعية والاستثمار في المرأة ودعم الكفاءات النسائية، إلى جانب التأكيد على دورها في التصدي لظاهرة الإرهاب. وفي مجال التمكين الاقتصادي يبدو المشوار طويلا أمام التونسيات فالاندماج الاقتصادي للمرأة يشكو ضعف مساهمتها في الحياة الاقتصادية، ومحدودية تواجدها كصاحبة أعمال وباعثة مشروع، كما أنها تعاني نسبة بطالة مرتفعة مقارنة بالرجل، خاصة في صفوف حاملات الشهائد العليا وتحتد هذه النسبة في المناطق الداخلية. وتقدر نسبة النساء المشتغلات بــ25.9 بالمئة سنة 2014 وهي نسبة ضعيفة مقارنة بتواجد الفتيات في التعليم العالي وعدد الخريجات، أما نسب البطالة في صفوف النساء فقد بلغت 21.5 بالمئة سنة 2014. ويقدر الفارق بين الجنسين في نسبة البطالة من بين حاملي الشهادات العليا سنة 2014 بحوالي 20 نقطة حيث تناهز هذه النسبة الــ40.8 بالمئة لدى الفتيات مقابل 21.2 بالمئة لدى الفتيان. ومن أجل تعزيز اندماج النساء وحاملات الشهادات العليا في سوق الشغل تسعى الحكومة التونسية إلى دعم التشغيل الذاتي للنساء والفتيات في المناطق الريفية وذلك عبر وضع برامج لدعم بعث المشاريع النسائية بكامل ولايات الجمهورية خلال الفترة 2019-2015، وذلك لأن آخر الإحصائيات الرسمية أظهرت أن المرأة الناشطة لا تمثل سوى 25.6 بالمئة في تونس رغم أن نسبة تواجد الفتاة في الجامعة تفوق 62 بالمئة. أما على المستوى التشريعي فتسعى وزارة المرأة إلى تفعيل مشروع أمر حكومي يتعلق بإحداث شبكة النظراء للمساواة وتكافؤ الفرص بين المرأة والرجل والذي يهدف إلى وضع آلية تعنى بإدماج مقاربة النوع الاجتماعي في التخطيط والبرمجة والموازنة للقضاء على جميع أشكال التمييز وتحقيق المساواة في التنمية وفي الحقوق والواجبات بين التونسيين والتونسيات. ولا يتحقق التمكين الاقتصادي دون تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة من خلال مقاومة الانقطاع المدرسي لدى الفتيات في المناطق الريفية والإحاطة بالنساء ذوات الحاجيات الخصوصية مثل توفير الرعاية والإحاطة للسجينات وغيرهن من الفئات التي تستحق برامج وسياسات خاصة ليتم الارتقاء بها. أما فيما يخص مقاومة العنف ضد المرأة عبر مراحل العمر وعملا بمقتضيات الدستور خاصة منها ما يتعلق بأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 46 الذي ينص على أن الدولة تتخذ التدابير اللازمة للقضاء على العنف ضد المرأة وتنفيذا للتعهدات الدولية لتونس تعمل الوزارة على إعداد مشروع القانون الشامل لمناهضة العنف ضد المرأة وتسعى للمصادقة عليه خلال السنة الجارية. وفي هذا الصدد قدم رئيس الجمهورية قرارات جديدة الخميس الماضي من بينها المساواة في الأجر في ميدان العمل الفلاحي وكذلك الصناعي مع ضرورة تطبيق القوانين في هذا الشأن. كما أكّد على أهمية إقرار ولاية الأم للأطفال القصّر داعيا الحكومة إلى استصدار القوانين في هذا الشأن. مشيرا إلى ضرورة التصدّي بقوّة القانون إلى ظاهرة الزجّ بالفتيات في متاهات تتنافى مع حداثة تونس وقوانينها مثل تلبيسهن الحجاب في بعض المدارس. وفيما يتعلق بتدعيم التمكين السياسي للمرأة فإن السلطات التونسية تعي نقص المشاركة النسائية في المناصب السياسية القيادية رغم أن مشاركتها السياسية في الأحزاب أو كناخب لا تقل أهمية عن الرجل وفي المرحلة الراهنة تستعد تونس لخوض الانتخابات البلدية وهو ما جعل وزارة المرأة تعمل على وضع برنامج تنفيذي وخطة إعلام واتصال لرفع الوعي لدى النساء بأهمية مشاركتهن في إدارة الشأن المحلي. هذه الاستراتيجيات وغيرها مثل إدماج مقاربة النوع الاجتماعي في السياسات العامة وفي عملية التخطيط التنموي ووضع برامج للنهوض بأوضاع النساء والفتيات في المناطق الريفية، تهدف جميعها إلى دفع المرأة التونسية نحو بلوغ المساواة وتدعم مؤهلاتها بما يخول لها امتلاك القدرة والكفاءة على لعب دور الشريك الفعلي في التنمية وفي مقاومة الإرهاب لأن المرأة الواعية والمثقفة تمثل درعا واقيا ضدّ التطرف وهي قادرة بما لها من خصال متميزة على أن تغرس في الناشئة قيم الأمل والتفاؤل وحب الحياة. ويمثل الاحتفال بعيد المرأة في تونس تكريما لكل امرأة عاملة وفاعلة في البيت وخارجه لما تقدمه من دور في دعم المجتمع والدولة، تكريسا لحقوقها واعترافا بمكانتها ودورها، كما يمثل مناسبة للوقوف عند النقائص وعند مشاكل النساء التي تستحق عملا ثنائيا بين سلطة المجتمع المدني الذي يهتم بالمشغل الحقوقي، والنسوي عبر بذل مزيد من الجهد للارتقاء بالمرأة التونسية إلى مصاف نساء الدول المتقدمة ومنها الارتقاء بالمرأة العربية عموما.
الاحتلال يواصل عدوانه على مخيم جباليا لليوم الرابع
08 أكتوبر 2024