عناصر البدء في مرحلة جديدة

e30ba9114c613e09366766481ce09eac.jpg
حجم الخط

بقلم: عدلي صادق

 

لم نعد نعرف السبيل للخروج من هذا المأزق الوطني، أو استعادة البوصلة التي طال أمد فقدانها. ستظل أسئلة المحنة، بلا أجوبة، طالما أن الذين أوصلونا الى هذا المأزق بنواياهم السيئة، هم الذين تُطلب منهم الإجابة عن أسئلة المحنة وأسئلة المصير. فقد تباعدت المسافات بينهم وبين الحقائق، واشتدت وطأة الخصومات، وبات الوطن والقضية يمران بأصعب المراحل وأخطرها، بينما نحن ماضون في إرهاق أنفسنا بأنفسنا.

كان واضحاً خلال سنوات الإنقسام والتشظي الكياني، أن النُخب السياسية تزداد بُعداً حتى عن ثقافاتها الأولى، على بساطتها، وتتوغل في العدم والشيخوخة. مرت سنوات عديدة على مراوحة الشرائح السياسية، في ذات المربع، فيما يشبه العُطالةَ والتعطل عن كل عمل ذي قيمة. كان بمقدورنا أن نعود الى التاريخ وأن نُطل على تجارب شعوب أخرى، معظمها إبتُليَ بما ابتُلينا به من أوهام وأمراض وإخفاقات وانقسامات. ففي بدايات القرن الماضي، كانت النخب موصولة بالأفكار والفلسفات والاجتهادات الدينية المستنيرة، تتأملها وتنتقي منها ما يناسب أوطانها. ومن بين تلك الأفكار أو صيغ الخلاص، ما يساعد على استرجاع الشعوب ثقتنها بأنفسها وبقضاياها. ولعل أكثر الصيغ فاعلية في أوقات الإنسداد والتكلس، والعزم على مواجهة تردي الطبقة السياسية وانتهاء صلاحيتها؛ هو البدء في بناء الكتلة الإحتماعية ــ السياسية، أو كتلة العقلاء الذين لا يجدون مصالحهم في الخصومة والاحتراب أو في التجاذب الداخلي، والغطرسة والاستبداد. لقد استُهلكت كل أنواع الخطابة وانكشف زَيْفُ ما بُني عليها، ولم يعد الحل في اجترار الذاكرة، وإنما في إعادة الاعتبار لثوابت القضية وتاريخ النضال الوطني، بمراكمة عناصر استمراريته، وليس باجتراره وتحويلة الى مادة حكائية لتسويق الغث والعاجز!

لا بد من النظر الى ما هو أبعد من الأطر الفصائلية والحزبية، وأن تتجمع قوى الإستنارة، من كل الأطياف، للخروج من المأزق الذي تورط فيه الجميع. لقد بات من أهم الأولويات، الإنتصار على أنفسنا ونزعاتنا، لكي نصبح جديرين بالعمل من أجل أهداف التحرر الوطني. فكل ما يجري الآن، يتهدد تماسك المجتمع الفلسطيني، وينحو الى إطاحة شروط العلاقات الإجتماعية المتوازنة، وتضييع هيبة القانون وضوابط الحكم، وهز ثوابت الهوية وحرف الوجهة العامة للولاءات، وضرب الوحدة الوجدانية للناس. لقد أثبتت الشرائح المتنفذة راهناً، تخلفاً مريعاً بالمعنى التاريخي، إذ لم تستطع خلال العديد من السنوات، الإهتداء الى الطريق القويم، ومعرفة ما نحتاجه من مقومات الحياة السياسية الصحيحة، والحياة الإقتصادية البناءة، وضرورات الثقافة والإدارة والتخطيط. وتبدّت الغطرسة المَرَضِيّة والنزعات الخطابية والكذب على النفس وعلى الناس. فقد ركزت هذه الشرائح على امتيازاتها وهيمنتها في قمة هرم مجتمع الحيارى والفقراء والمخدوعين. اصطنعت كل شريحة لنفسها، مظلة مرجعيات وأتباع يجري ترويضها وتلقينها وتحريضها، لكي تظل تحمل أوهامها في هجرتها الخاصة، وأبعد ما تكون عن وقائع الحال، ومنطق التعاضد الوطني، واستيعاب الآخر!

لا زال الممسكون بمقاليد الأمور، من أصحاب الخطين النقيضين، التسوية والمقاومة، يحرصون على إيهام الموالين، أنهم لا زالوا ماضين في ذات السياق الذي بدأوه، وأنهم لم يفشلوا ولم يصلوا الى طريق مسدودة على كلٍ من الخطين النقيضين. أرادوا أن يظل الناس خارج إطار الحقائق، لكي لا تتحسس القوى الحية في المجتمع، وفي طليعتها الأجيال الشابة، طريقها الى الوحدة وبناء الكتلة الإجتماعية التاريخية، التي تستوعب دروس الفشل البليغ، وتغادر مناخات التلفيق السياسي، والتطمينات الظرفية، وتؤسس لانطلاقة كفاحية جديدة، تتردد أصداؤها في قلب المجتمع، ويقوم بنيانها على قاعدة المصلحة الموضوعية الواحدة للشعب الفلسطيني، ومراعاة الأصالة، والديمقراطية، والعدالة، وتكافؤ الفرص، وضمان الحريات. فبدون قيام هذا الحلف الوطني العام، لن يستحوذ الفلسطينيون على عناصر البدء في مرحلة جديدة!

إن هو قائم الآن، بكافة راياته وأسمائه، لن يصل الى شيء ذي قيمة، ما لم تكن هناك حيثيات، ووقائع جديدة، تنمو وتترسخ وتستمر.. ذلك لأن فاقد الشيء لن يعطيه!