كما قال ذات مرة عالم الأحياء الفرنسي لامارك «البقاء للأقوى»، ذلك ينطبق على السياسة أيضا، فكثير من الشعوب والدول والإمبراطوريات حتى أخلت مكانها أمام ازدحام حركة التاريخ وغادرت دون رجعة، ومنذ سنوات وربما عقود كان واضحا أن السياسة العربية أصيبت بالوهن إلى الحد الذي بدا أنها تغادر في لعبة الانزياح الكبرى، ومنذ سنوات بدا أن دولاً أخرى إقليمية تغطي فراغاً سياسياً ينسحب منه العرب، فالسياسة لا تعرف الفراغ.
ما يحدث في المنطقة يثير الشفقة على تاريخ ينهار وعواصم تغرق بالدم، تتحطم أنظمة سياسية نخرها الصدأ، لا للذهاب نحو الدولة الحديثة بل للنكوص نحو بدائية مثيرة للدهشة أمام تجارب العالم الحديث ودوله التي قدمت لمواطنها ما يفخر به، فيما الخوف هو منتج السياسة العربية بلا منازع في ظل ثقافة غابت عنها الحدود الدنيا للعمل السياسي والإداري وظلت تدار بعقل العشيرة.
ثلاث دول في الإقليم ليس بينها دولة عربية واحدة تنازع السيطرة والنفوذ ولعبة المصالح في الوطن العربي الذي شاء أن يكون مسرح لعبة الكبار وهي تركيا وإيران وإسرائيل، تلك الدول تمكنت من بناء دول حديثة سواء بالاقتصاد أو ببناء الجيوش الحقيقية أو بالجامعات ومراكز البحث العلمي، فاقتصاداتها تنمو باستمرار وجيوشها قادرة على الدفاع عنها حتى خارج حدودها إن تطلب الأمر وجامعاتها تتنافس في حجز مواقع أولى في سلم التصنيف العلمي، أما الصناعات العسكرية فنسمع دوماً عن إنتاج غواصات أو صواريخ أو طائرات.
لكن اقتصاد الدول العربية يعيش على حافة الفقر باستثناء الخليج والذي لولا النفط لانضم بجدارة إلى لائحة المتسولين، والجيوش العربية أضعف من أن تفتح معركة بل بالكاد قادرة على الدفاع عن أراضيها وتنهار مع أول هبة رياح، أما الجامعات فلا توجد جامعة عربية في أول 400 جامعة وفق تصنيف شنغهاي باستثناء جامعتين سعوديتين في المكان بعد 300، ولا مكان للاقتصاد العربي في الاقتصاد العالمي، ولا صناعات مكنت المواطن من تسديد احتياجاته، فلم يصل الى علم صناعة السيارة ليتمكن المواطن من شرائها بسعر معقول، أما مراكز البحث العلمي فتبدو كأنها حالة من الترف الزائد.
فالدول العربية هي دول الجيوش والعروش وليست دول الشعوب، دول المشيخات لا دول الانتخابات، دول وشعوب الخرافة لا دول العلم والتكنولوجيا، دول الأمن لا دول الاقتصاد، ودول السجون لا دول مراكز البحث العلمي، والكثير من المفارقات التي يمكن أن تضعنا أمام مرآة حقيقتنا لنكتشف أن هذا الانهيار كان له مقدمات وكان من الطبيعي أن تؤدي تلك إلى هذه النتائج.
وأمام هذا الواقع كان لا بد وأن تتقدم دول حقيقية لاستهداف ونهب والاستيلاء على الدول الكرتونية، وكان لا بد أن يصبح ما لديها من جغرافيا وموارد محط أنظار الدول الإقليمية في ظل حالة الوهن، فحين سيطر الحوثيون على اليمن هرعت الدول العربية لطلب النجدة من مجلس الأمن، لكن هذا يعرف حدود القوة ويتعاطى السياسة بالممكنات لا بالنوايا العشائرية ورغباتها ولا بمطالب الضعفاء وسذاجتهم، فالعالم لا يحترم إلا الأقوياء ويحتقر الضعفاء، فذات مرة قال مستشار الأمن القومي الأميركي بريجنسكي للكاتب المصري محمد حسنين هيكل أن العرب وإسرائيل أصدقاء للولايات المتحدة الأميركية، إسرائيل صديق مشاكس لكنه يعتمد على نفسه، أما العرب فهم صديق مسالم ولكنه غير قادر على الاعتماد على نفسه.
هذا صحيح لا بالغذاء ولا بالدواء ولا بالسلاح ولا بأي شيء، وكان لنا أن نفهم هذا الضعف من معادلة الوجود الإسرائيلي في المنطقة، ملايين قليلة تمكنت من الاستمرار وسط العالم العربي وأبعد من ذلك شكلت الهاجس لهم جميعا وقوة الردع الأكبر التي يخشاها الجميع، لدرجة أن تلك القوة خفضت طموح الزعماء العرب إلى حد ان الحفاظ على مواقعهم هو الإنجاز الأكبر، ومع الزمن ابتعد العرب عن طريق إسرائيل وبعضهم تعاطى معها بالسر والآخر بالعلن.
وفيما تتمدد الدول الثلاث تركيا وإيران واسرائيل فإن الدولة العربية تنكمش ويتم قضمها بشكل لا يشبه إلا قطعة الجبن في أفلام الكرتون، إذ اقتطعت إسرائيل دولة لها وهي دولة جنوب السودان من السودان الأم رغماً عنه وعن الجامعة العربية، وتم قضم الرقة من سورية والموصل من العراق، ودرنة من ليبيا، ويجري اقتطاع سيناء من مصر مع الإشارة لما يمر به اليمن، أما فلسطين فاقتطعت كلها، وما تبقى منها جرى تقطيعه بين غزة والضفة بالتأكيد ضمن إرادة إسرائيلية، فما جرى ويجري في المنطقة هو تقسيم حقيقي للتركة العربية والاستيلاء على ما يمكن وما يلزم لدول القوة في الإقليم.
حسب «أوكسفام» فان غزة تحتاج إلى مئة عام لإعادة إعمارها، أما سورية التي دمرت اقتصادها لعقود طويلة ولا نعرف كم من الزمن تحتاج لتعود سورية السابقة، والعراق الذي يشهد اضطرابا منذ أكثر من عقد وكم عقدا يحتاج، واليمن على وشك حرب أهلية، وليبيا لن تعود للسابق، وحرب الدولة المصرية في سيناء حرب طويلة كما يقول المسؤولون، وربما أن هناك دولا وعروشا أخرى مهددة، إذن نحن أمام مستقبل عربي مظلم دوله آخذة بالانكماش وغيرها آخذ بالتمدد، ولم يعد أحد يردد «بلاد العرب أوطاني» وأصبح أوبريت الحلم العربي شيئاً من ماض جميل.
لم نتعلم من تجربة الشعوب الأخرى، ولم نبدأ حتى من حيث انتهت رحلة الدم التي مرت بها، وحين ظهرت نخبة مثقفة تطالب بالاستفادة من التجارب هب مثقفو الأنظمة ومثقفو السكن في الماضي بالتخويف بنظرية الاستيراد من الغرب، ليتنا استوردنا منهم كل شيء ربما لأصبحنا دولاً وشعوباً وليس بقايا طرائد تتنازعها ذئاب السياسة، فكل منظري التخلف والدكتاتورية لم يؤدوا بنا سوى إلى الانهيار والتآكل.
على امتداد حالة التراجع العربية كان العقل العربي المأزوم يبحث عن مسارات الخروج فانقسم إلى فئتين: الأولى كانت تعتقد أن استدعاء الماضي هو الكفيل بإعطاء الحلول وفئة أخرى كانت تستعجل المستقبل وما بين استدعاء الماضي واستعجال المستقبل ضاع الحاصر الذي لم نستفق إلا على واقعه الصادم، أمة تأكل نفسها ويتقاسمها الآخرون، ولا أحد يملك حل ما تراكم منذ عقود لتنفجر فقاعته على شكل أنهار من الدم، ولا نعرف حتى اللحظة أن الشراكة السياسية هي الحل الوحيد كما قالت تجربة التاريخ، وأن العلم هو سلاح الشعوب حقيقة وليس شعاراً يكتبه المدرس في حكمة اليوم .. نحن نقبع في الدرك الأسفل للأمم ويتم تقسيمنا على باقي الشعوب، الكل يريد أن يهرب من حفلة الجحيم العربية ويحمل جنسية أخرى .. أي فخر هذا ..!؟
ما يحدث في المنطقة يثير الشفقة على تاريخ ينهار وعواصم تغرق بالدم، تتحطم أنظمة سياسية نخرها الصدأ، لا للذهاب نحو الدولة الحديثة بل للنكوص نحو بدائية مثيرة للدهشة أمام تجارب العالم الحديث ودوله التي قدمت لمواطنها ما يفخر به، فيما الخوف هو منتج السياسة العربية بلا منازع في ظل ثقافة غابت عنها الحدود الدنيا للعمل السياسي والإداري وظلت تدار بعقل العشيرة.
ثلاث دول في الإقليم ليس بينها دولة عربية واحدة تنازع السيطرة والنفوذ ولعبة المصالح في الوطن العربي الذي شاء أن يكون مسرح لعبة الكبار وهي تركيا وإيران وإسرائيل، تلك الدول تمكنت من بناء دول حديثة سواء بالاقتصاد أو ببناء الجيوش الحقيقية أو بالجامعات ومراكز البحث العلمي، فاقتصاداتها تنمو باستمرار وجيوشها قادرة على الدفاع عنها حتى خارج حدودها إن تطلب الأمر وجامعاتها تتنافس في حجز مواقع أولى في سلم التصنيف العلمي، أما الصناعات العسكرية فنسمع دوماً عن إنتاج غواصات أو صواريخ أو طائرات.
لكن اقتصاد الدول العربية يعيش على حافة الفقر باستثناء الخليج والذي لولا النفط لانضم بجدارة إلى لائحة المتسولين، والجيوش العربية أضعف من أن تفتح معركة بل بالكاد قادرة على الدفاع عن أراضيها وتنهار مع أول هبة رياح، أما الجامعات فلا توجد جامعة عربية في أول 400 جامعة وفق تصنيف شنغهاي باستثناء جامعتين سعوديتين في المكان بعد 300، ولا مكان للاقتصاد العربي في الاقتصاد العالمي، ولا صناعات مكنت المواطن من تسديد احتياجاته، فلم يصل الى علم صناعة السيارة ليتمكن المواطن من شرائها بسعر معقول، أما مراكز البحث العلمي فتبدو كأنها حالة من الترف الزائد.
فالدول العربية هي دول الجيوش والعروش وليست دول الشعوب، دول المشيخات لا دول الانتخابات، دول وشعوب الخرافة لا دول العلم والتكنولوجيا، دول الأمن لا دول الاقتصاد، ودول السجون لا دول مراكز البحث العلمي، والكثير من المفارقات التي يمكن أن تضعنا أمام مرآة حقيقتنا لنكتشف أن هذا الانهيار كان له مقدمات وكان من الطبيعي أن تؤدي تلك إلى هذه النتائج.
وأمام هذا الواقع كان لا بد وأن تتقدم دول حقيقية لاستهداف ونهب والاستيلاء على الدول الكرتونية، وكان لا بد أن يصبح ما لديها من جغرافيا وموارد محط أنظار الدول الإقليمية في ظل حالة الوهن، فحين سيطر الحوثيون على اليمن هرعت الدول العربية لطلب النجدة من مجلس الأمن، لكن هذا يعرف حدود القوة ويتعاطى السياسة بالممكنات لا بالنوايا العشائرية ورغباتها ولا بمطالب الضعفاء وسذاجتهم، فالعالم لا يحترم إلا الأقوياء ويحتقر الضعفاء، فذات مرة قال مستشار الأمن القومي الأميركي بريجنسكي للكاتب المصري محمد حسنين هيكل أن العرب وإسرائيل أصدقاء للولايات المتحدة الأميركية، إسرائيل صديق مشاكس لكنه يعتمد على نفسه، أما العرب فهم صديق مسالم ولكنه غير قادر على الاعتماد على نفسه.
هذا صحيح لا بالغذاء ولا بالدواء ولا بالسلاح ولا بأي شيء، وكان لنا أن نفهم هذا الضعف من معادلة الوجود الإسرائيلي في المنطقة، ملايين قليلة تمكنت من الاستمرار وسط العالم العربي وأبعد من ذلك شكلت الهاجس لهم جميعا وقوة الردع الأكبر التي يخشاها الجميع، لدرجة أن تلك القوة خفضت طموح الزعماء العرب إلى حد ان الحفاظ على مواقعهم هو الإنجاز الأكبر، ومع الزمن ابتعد العرب عن طريق إسرائيل وبعضهم تعاطى معها بالسر والآخر بالعلن.
وفيما تتمدد الدول الثلاث تركيا وإيران واسرائيل فإن الدولة العربية تنكمش ويتم قضمها بشكل لا يشبه إلا قطعة الجبن في أفلام الكرتون، إذ اقتطعت إسرائيل دولة لها وهي دولة جنوب السودان من السودان الأم رغماً عنه وعن الجامعة العربية، وتم قضم الرقة من سورية والموصل من العراق، ودرنة من ليبيا، ويجري اقتطاع سيناء من مصر مع الإشارة لما يمر به اليمن، أما فلسطين فاقتطعت كلها، وما تبقى منها جرى تقطيعه بين غزة والضفة بالتأكيد ضمن إرادة إسرائيلية، فما جرى ويجري في المنطقة هو تقسيم حقيقي للتركة العربية والاستيلاء على ما يمكن وما يلزم لدول القوة في الإقليم.
حسب «أوكسفام» فان غزة تحتاج إلى مئة عام لإعادة إعمارها، أما سورية التي دمرت اقتصادها لعقود طويلة ولا نعرف كم من الزمن تحتاج لتعود سورية السابقة، والعراق الذي يشهد اضطرابا منذ أكثر من عقد وكم عقدا يحتاج، واليمن على وشك حرب أهلية، وليبيا لن تعود للسابق، وحرب الدولة المصرية في سيناء حرب طويلة كما يقول المسؤولون، وربما أن هناك دولا وعروشا أخرى مهددة، إذن نحن أمام مستقبل عربي مظلم دوله آخذة بالانكماش وغيرها آخذ بالتمدد، ولم يعد أحد يردد «بلاد العرب أوطاني» وأصبح أوبريت الحلم العربي شيئاً من ماض جميل.
لم نتعلم من تجربة الشعوب الأخرى، ولم نبدأ حتى من حيث انتهت رحلة الدم التي مرت بها، وحين ظهرت نخبة مثقفة تطالب بالاستفادة من التجارب هب مثقفو الأنظمة ومثقفو السكن في الماضي بالتخويف بنظرية الاستيراد من الغرب، ليتنا استوردنا منهم كل شيء ربما لأصبحنا دولاً وشعوباً وليس بقايا طرائد تتنازعها ذئاب السياسة، فكل منظري التخلف والدكتاتورية لم يؤدوا بنا سوى إلى الانهيار والتآكل.
على امتداد حالة التراجع العربية كان العقل العربي المأزوم يبحث عن مسارات الخروج فانقسم إلى فئتين: الأولى كانت تعتقد أن استدعاء الماضي هو الكفيل بإعطاء الحلول وفئة أخرى كانت تستعجل المستقبل وما بين استدعاء الماضي واستعجال المستقبل ضاع الحاصر الذي لم نستفق إلا على واقعه الصادم، أمة تأكل نفسها ويتقاسمها الآخرون، ولا أحد يملك حل ما تراكم منذ عقود لتنفجر فقاعته على شكل أنهار من الدم، ولا نعرف حتى اللحظة أن الشراكة السياسية هي الحل الوحيد كما قالت تجربة التاريخ، وأن العلم هو سلاح الشعوب حقيقة وليس شعاراً يكتبه المدرس في حكمة اليوم .. نحن نقبع في الدرك الأسفل للأمم ويتم تقسيمنا على باقي الشعوب، الكل يريد أن يهرب من حفلة الجحيم العربية ويحمل جنسية أخرى .. أي فخر هذا ..!؟