التنسيق الأمني

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

تقريبا، لم يكتب أحد في موضوع التنسيق الأمني بوضوح وصراحة؛ من لديهم المقدرة على الكتابة بمهنية، ودون تحيز، ودون خوف، لا توجد لديهم معلومات.. ومن لديهم المعلومات غير مصرح لهم بالكتابة.. معظم ما كُتب ونُشر عن التنسيق الأمني مجرد هراء؛ إما شتائم مسكونة بالكراهية، أو اتهامات لا تستند إلى دليل، أو تحليلات متشنجة مدفوعة بمواقف سياسية مسبقة، أو تبريرات سطحية؛ ما أفقدها قيمتها المعرفية.
بالنسبة لي، ليس لدي معلومات كافية ولا براهين قطعية عن الموضوع، لذا لم أكتب عنه سابقا.. لكن موجة الاتهامات الأخيرة المتشنجة دفعتني لأن أحاول.  
ظهر مصطلح التنسيق الأمني أول مرة في الحرب العالمية الأولى، بعد أن لاحظ قادة الجيوش المتحاربة، تعذر القيام ببعض المهمات أثناء تبادل القصف، وصعوبة تواصل قادة الجيوش الميدانيين مع بعضهم.. فظهرت فكرة إيفاد رسل للتفاوض على أشياء محددة، ثم تطورت الفكرة بتخصيص جهة معينة تتولى عمليات تنسيق المباحثات بين الجيوش لتسهيل مهمات معينة، مثل إخلاء جرحى، أو تخصيص ممرات آمنة للمدنيين، أو أيصال إمدادات غذائية وطبية، أو الإعلان عن هدنة، أو للاتفاق على أماكن معينة بحيث لا يقصفها أحد، مثل المتاحف والكنائس.. 
وفيما بعد صار لكل الدول المتحاربة وحدة خاصة ملحقة بالجيش أو بالمخابرات تتولى عمليات التنسيق الأمني في المسائل الميدانية.. (لا تتدخل في القضايا الإستراتيجية والسياسية)، وهذه الوحدة يتم انتقاء أفرادها بعناية فائقة، نظرا لأهمية وخطورة الدور الذي تقوم به.
في الصراع العربي الصهيوني يكتسب موضوع التنسيق الأمني (أو الارتباط العسكري) أهمية استثنائية (لا أقصد أهمية بالمعنى الإيجابي)، ذلك بسبب تعقد المشهد السياسي، وبسبب التفوق الهائل لإسرائيل في الجوانب العسكرية والأمنية، وغيرها، نتيجة الخلل الفادح في موازين القوى.. وهذا معروف ولا يحتاج شرحاً.. وقد تضمنت اتفاقية أوسلو ملحقا خاصا بالتنسيق الأمني.
لكن الأسئلة المطروحة: إلى أي مدى يمكن للتنسيق الأمني أن يصل؟ ما هي الخطوط الحمر؟ ما هي المواضيع التي يلح عليها كل طرف؟ طبعا يمكن لكل شخص أن يتكهن إجابته الخاصة.. استنادا إلى آرائه المسبقة، وموقفه من السلطة.. ولكن هذا لا يعني أبدا أن هذه الإجابات صحيحة بالضرورة.. فمثل هذه المواضيع من المفترض أنها سرية، وتجري داخل غرف مغلقة، ويحرص الطرفان على عدم تسريب أي شيء للإعلام. 
يحدث أحيانا أن تقوم إسرائيل بتسريب معلومة معينة، في أغلب الأحيان تفعل ذلك عن قصد، ولأسباب لها علاقة بالحرب النفسية، وهي محترفة بهذا الشأن.. والجمهور العربي عموما محترف في تلقي المعلومة وترديدها كالببغاء.. وبالتالي مساعدة إسرائيل في تحقيق أهدافها.. إسرائيل تكتب المبتدأ، ونحن نكتب الخبر. 
حسنا، من الواضح أن أغلب الاتهامات بشأن التنسيق الأمني تأتي من قبل حماس.. خاصة ما يتعلق بجرائم الاحتلال في الضفة الغربية.
لنسأل أنفسنا: كيف كانت إسرائيل تعتقل وتغتال المناضلين قبل مجيء السلطة؟ وكيف تمكنت من اغتيال قيادات من حماس وسط غزة، بل واغتالت شخصيات حمساوية في تونس، وماليزيا، ودبي، ودمشق، ولبنان...؟؟ 
الشهيد يحيى عياش، كان المطلوب الأول لإسرائيل، وقد جاب الضفة من شمالها إلى جنوبها فترة طويلة دون أن تعثر عليه، ثم تم تهريبه إلى غزة، على اعتبار أنها أكثر أمنا، بمعرفة حماس، وتحت حمايتها.. لم تمض سوى أشهر قليلة حتى استشهد، وقد تبين أن الجاسوس الذي سهل اغتياله هو الشخص الذي وثقت به حماس.  
باستثناء الشهيد الشيخ أحمد ياسين (لأن مكان إقامته، وحركته كانت معروفة ومكشوفة بحكم وضعيته الجسدية الخاصة) كل عمليات اغتيال قادة وكوادر حماس، سواء التي جرت في غزة، أو خارجها، كانت بسبب ثغرات أمنية في الدائرة الأقرب للشهيد المطلوب، أي بسبب اختراقات أمنية داخل حماس.. ولا علاقة لأي جهة أخرى بذلك.. ومن يفتح هذا الملف سيُصدم بالحقائق المرعبة.. مع التأكيد على أن كل التنظيمات الفلسطينية غير محصنة أمنيا.
معظم عمليات الاغتيال والاعتقال التي كانت تنفذها إسرائيل، كانت بسبب أخطاء أمنية يقترفها الشخص المطلوب نفسه.. أخطاء بسيطة وساذجة، كان يمكن تلافيها. 
وتزداد هذه الأخطاء أثناء الاعتقالات العشوائية التي تقوم بها إسرائيل، فيحدث أن يتطوع البعض بإعطاء معلومات.   
وبعد ذلك تأتي أخطاء المجتمع، أي بسبب الثرثرة، والاستعراض، ورغبة الفصائل واستعجالها في تبني العملية، أو بسبب مشاركة الناس صورة المناضل المطلوب على نطاق واسع على فيسبوك، أو بسبب وجود كاميرات للمحلات موجهة للشارع (عدا الكاميرات التي تثبتها إسرائيل على الأعمدة في الشوارع الخارجية).. 
هذا كله إلى جانب الإمكانيات الهائلة والقدرات الكبيرة لأجهزة الأمن الإسرائيلية، والقدر الكبير جدا من المعلومات، والتي جمعتها خلال سبعين عاما من الاحتلال، والخرائط الدقيقة، والصور التي تلتقطها «الزنانات»، والأقمار الاصطناعية. 
بعد أسر «شاليت»، صارت إسرائيل تضع ثلاث شرائح إلكترونية دقيقة جدا مع كل جندي، إحداها في «بصطاره»، والثانية في خوذته، والثالثة في سلاحه.. وربما هذا ما سهّل على الجيش الوصول للشهيد عمر أبو ليلى.. وكذلك، فإن كل تجار السلاح والمهربين تستغلهم الشاباك، فتضع شرائح تتبع في السلاح، أو في السيارات، أو «الموبايلات». 
إسرائيل هاجسها الأول الأمن، تضع كل إمكانياتها وأولوياتها لقضية الأمن.. وقد اهتمت بمسألة تنظيم شبكة واسعة من الجواسيس.. على مدى سنوات الاحتلال، وهؤلاء تحتاجهم فقط في اللحظات الأخيرة، أي لتأكيد وجود الشخص المطلوب في المكان المحدد.. قبل ذلك، لا تثق أجهزة إسرائيل الأمنية بأحد.. لا تركن إلى أي جهة.. تتولى موضوع الأمن من ألفه إلى يائه بنفسها..  
ومع ذلك يعتقد البعض أن إسرائيل رغم قدراتها الأمنية فائقة التطور، وكم المعلومات الهائل، أنها دون «أجهزة دايتون» لا تستطيع الوصول لأي مطلوب. 
ومع ذلك، يظل التنسيق الأمني سيئ الصيت والسمعة، ومكروها.. وهو من سلبيات أوسلو التي لا يمكن تبريرها.. وآن الأوان لإلغائه، خاصة مع قرب الإعلان عن صفقة العصر.. لكنه ليس السبب في هزيمة الأمة العربية. 
يستسهل البعض اتهام السلطة (حتى لو كان في ذلك تبرئة لإسرائيل)، لأن هذا يريحهم من عناء الضمير، ويعفيهم من مسؤولياتهم.. ويمنحهم شعوراً غامضاً بالرضا.. شعورا وهميا لذيذا.. بأن مشكلتنا بسيطة ومعروفة «السلطة».. هي سبب تأخر مشروع التحرير!!