في ظلال ذكرى تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام

860x484.jpg
حجم الخط

بقلم: محمود الهباش

 

قاضي قضاة فلسطين الشرعيين ومستشار الرئيس للشؤون الدينية

من مسلمات الوعي والفكر الإسلامي، منذ العصر النبوي، وإلى اليوم، وإلى قيام الساعة، أن القدس وأكنافها المباركة، ليست مجرد بقعة جغرافية تاريخية تحظى بمكانة متميزة عند المسلمين، وأن القضية الفلسطينية بكل عناصرها وأبعادها وتداخلاتها المختلفة، ليست مجرد قضية سياسية يمكن المساومة عليها أو التنازل عنها استنادًا إلى حسابات السياسة، بل هي أرض شديدة القداسة إلى درجة تخالط العقيدة الدينية ونصوص الوحي، بحيث تصبح جزءًا من حقائقها ومسلّماتها.

إن هذه القدس المقدسة تمثل جزءًا من العقيدة الدينية التي اعتنقها، ولا يزال وسيظل يعتنقها حتى نهاية الدنيا، مئات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهي أرض الإسراء والمعراج التي ترتبط بالنبوة والرسالة وحاملها وخاتمها محمد صلى الله عليه وسلم، كما ترتبط بالقرآن الذي تحمل سورة من سوره "الإسراء" اسم وموضوع هذه المعجزة الخالدة، التي وَثّقها القرآن كما وَثّق علاقة الدين بالقدس ومكة المكرمة في قول الله تبارك وتعالى: "سُبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، كما وَثّقه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

والقدس المباركة هذه هي قبلة المسلمين الأولى، التي صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون مدة تزيد عن أربعة عشر عامًا من عمر السيرة النبوية البالغة ثلاثة وعشرين عامًا، إذ استقبلها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ثلاثة عشر عامًا كاملة بمكة المكرمة، ثم ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا بالمدينة المنورة بعد الهجرة النبوية إليها، قبل أن ينزل الوحي بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام في مثل هذا الشهر من العام الثاني للهجرة النبوية.

وتاريخ القدس ومسجدها الأقصى هو تاريخ الأنبياء والمرسلين من لدن آدم إلى خاتمهم محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم، وفي هذا المسجد، كما يؤمن المسلمون، جمعهم الله تعالى في ليلة الإسراء والمعراج، لتتجلى باجتماعهم وحدة العقيدة والرسالة السماوية، التي جمعها الله من بعدهم لرسول الإسلام محمد صلى الله وسلم عليه وعليهم، ثم ليواصل تاريخ القدس المرتبط بهذه الرسالة، السير قُدُمًا في رحلة الوجود الإنساني في هذه المعمورة، ليكون أيضًا تاريخ كل من حمل رسالة التوحيد والحق من بعد هذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، من خلفائه الراشدين وأصحابه الصادقين، ومن لحق بهم من التابعين والفقهاء والعلماء والأولياء والشهداء والمرابطين إلى أن تزول الدنيا.

إن معركة القدس المحتدمة اليوم، ليست مجرد معركة مع احتلال أجنبي يحتل أرضها، لكنها معركة بين الحقيقة والخرافة، بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، بين الاستقامة والعِوَج، بين التسامح والتعصب، بين الخير والشر، وبكل ما في كل ذلك من معان وأبعاد وفضاءات فكر ووعي، ولعل كل من يُحسن قراءة التاريخ، ويفهم حقائق الدين غير القابلة للنقض، سوف يكون مطمئنًا حيال النتيجة الحتمية لهذه المعركة التي سوف لن تضع رحالها حتمًا إلا في مرافئ وعد الآخرة.