انفصام الزعماء العرب.. البشير نموذجاً..!!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

أكرم عطا الله

أحياناً يصاب الإنسان بالدهشة من طبيعة تفكير الرؤساء العرب وينكشف الأمر عندما يتم خلعهم من الحكم ويعودون مجرد مواطنين أو متهمين تشي تصريحاتهم بما يثير الحيرة ممن كان يعتقد أنهم الأكثر رصانةً أو الأكثر ذكاء حد العبقرية التي أوصلتهم الى أن يكونوا رقماً واحداً بين ملايين، ولكن في لحظة ينكشف ما هو صادم.
الحقيقة أن الأمر بحاجة الى تحليل نفسي لعلاجهم من مرض يبدو أنه يصيبهم بعد سنوات من الزعامة، فقد علمونا في علم النفس أن النفس تمرض كما الجسد، وإذا لم يتم علاجها يصبح مرضها مزمناً، ومن يستطيع أن يقول للرئيس أنه أصيب بمرض نفسي ما وبحاجة للعلاج فقد تتداخل الأمور بين جنون العظمة والانفصام والانفصال عن الواقع، حين يدرك الزعيم أنه سيحكم للأبد في منطقة لا يغادرها إلا مرغماً أو بالموت.
حاول الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة السياسات بالحزب الوطني المصري الذي كان يرأسه الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك أن يجيب على شيء من هذا محملاً المسؤولية للمساعدين. ففي احد لقاءاته التليفزيونية قال الفقي «إن الرئيس مبارك في بدايات حكمه كان شديد التواضع، لكن بفضل تزلف المساعدين وهم الأكثر إضراراً بالرئيس وسبب إصابته والذين يرددون له كلمات من نوع «دي حاجة محصلتش» أو «أول مرة رئيس يعمل كده» ومع الزمن يعتقد الرئيس أنه لم يمر على الدولة شبيهٌ له وهو الأفضل على مر التاريخ والأزمنة، ولم يمر من يحكم مثله، ومع الزمن يتحول الى حالة دكتاتورية لا مثيل لها.
ومع العزلة التي تفرض على الرئيس الذي يتحرك وينتقل في حلقة ضيقة ويحتك في حلقة أضيق يسمع ما يريد من الكلام، ومع الزمن يصبح في حالة انفصال كلي عن الواقع حتى لو كان الواقع آخذاً بالانهيار الذي يستدعي رحيله ومن معه، بل وأكثر حتى محاكمته والطاقم المصاحب الذي افتقد للكفاءة، لأن معايير الاختيار كانت على أساس الولاء فقط ليس أكثر.
قال الرئيس مبارك أثناء الثورة المصرية التي خلعته جملة مازالت مدعاة للدهشة والتأمل في مستوى التفكير في احد خطابات الرحيل، حيث قال «سيحكم علي التاريخ»، وهو نفسه القائل حين سئل ذات مرة عن توريث ابنه جمال للزعامة أجاب «وهل أسلمه خرابة» أي أنه اعترف أنه يترك مصر بعده كومة خراب، ولكنه في مرحلة ما يترك للتاريخ أن يتحدث عن إنجازاته، لكن ليس هذا هو الأهم، فالأهم أن كلمته تشي بنوع من احتقار البشر حيث فقدانهم القدرة على إصدار أحكام، فهم غير مؤهلين لذلك، تسعون مليون مصري آنذاك بينهم عشرات آلاف من الخبراء في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع يفتقدون القدرة على تقييم مرحلة مبارك، ناهيك عن شعب كان في الشوارع قد سئم الحالة المتردية، وفي هذا ما يشي بنظرة تتعلق بالقطيع الذي يفتقد للعقل ولم ير تلك الملايين التي تحتج في الشوارع مطالبة برحيله.
الرئيس البشير قبل أيام وما تسرب عنه أنه قال إن هناك مؤامرة ضده من قبل السعودية والامارات وهي التي أدت الى اسقاطه، وتلك حالة انفصال تشبه التي سبقتها، فهو أيضاً لم ير ملايين البشر المعتصمين تحت درجة حرارة 42 في الميدان مطالبة برحيله بعد أن تردت الحياة في ذلك البلد الشاسع الذي يقسمه النيل، وبعد انهيار الجنيه السوداني الى مستويات جعلت من الفقر الظاهرة الوحيدة السائدة في السودان، وهذا بعد أن تسبب بمذابح وانتهى حكمه بتقسيم البلد وخسارة الجزء الجنوبي منه، فقط كل ما في الأمر أن دولاً عربية تآمرت ضده وأسقطته، لكن الأمر بالنسبة له في السودان على ما يرام. وفي ما قاله هذا وذلك ما هو مهين لشعوب كافحت على امتداد تاريخها وصنعت أمجاداً وحاربت بالنهاية يتم تصويرها على أنها دمى يحركها الآخرون.
نظرية المؤامرة دائماً قائمة ولا يمكن نفيها من العمل السياسي، فهي زيت السياسة. وما حدث في الإقليم في السنوات الثماني السابقة أثبت أن كل دولة عربية تتآمر على الأخرى، وتلك لعبة استهواها العرب إما إمعاناً في عقلية القبيلة والثأر، وإما التواطؤ لصالح دول خارجية كما حصل مع القذافي. لكن كلمة السر فيما حدث والذي لا يريد أن يراه أي حكم، أن هناك زعماء وزعامات وفساداً ودولاً تحولت الى إقطاعيات لأحزاب حاكمة تربعت على الحكم لعقود طويلة بلا ديمقراطية وبلا تغيير في زمن سريع الحركة، والأمر الآخر أن التردي والانهيار كان صديقاً لرحلة هؤلاء ويمكن قياس أية دولة عربية ومستوياتها المختلفة مع زمن حكم أي زعيم سنجد الإجابة في أرقام اقتصادية واجتماعية وعدد السجون والسجناء ووضع الدول على حافة التسول والتوسل.
لقد ثبت أن أي اعتقاد بدوام أي حكم هو تحوله الى حالة من الجنون والانفصال والدكتاتورية. هذا هو واقع الوطن العربي، لأن الرئيس الأميركي الذي يحكم العالم في فترة من الفترات حين يلزمه القانون بتحزيم حقائبه بعد ولايتين من ثماني سنوات، فانه يتخلى عن كل ما يمارسه الزعماء العرب بل ويتذكر يومياً أنه سيعود مواطناً عادياً يتلقى راتبه من الدولة، ويدرك أن لا لزوم لكل ما يفعله العرب المؤبدون في الحكم، وهناك فرق بين من يؤسس لمملكة دائمة وبين شعور المواطن الموظف وهنا تكمن العلة.
نحن هنا بحاجة الى إعادة صياغة العقل الاجتماعي، فالعرب،كما يقول الفقي، في بدايات الحكم أول عشر سنوات هم في غاية التواضع، فماذا لو رحلوا بعد ولاية أو اثنتين قبل أن يستفحل جنون العظمة وجنون التاريخ وتتلبسهم نظرية المؤامرة؟ ماذا لو اكتفوا بحماية القانون وليس حماية أجهزة أمن وحرس رئيس «طبعاً غير موجود في الدول الديمقراطية»؟ لأن تلك مهمة الدولة وأجهزتها وليس مهمة الرئيس أن يحمي نفسه بجهاز خاص.
العقد الاجتماعي الذي يقوم على أن الرئيس هو موظف لدى الشعب لفترة محدودة يحاسبه عليها القانون وتنتهي الوظيفة بعقد لا يمكن التلاعب فيه، عقد تم الاتفاق عليه مع الشعب لا يخضع لرغبة أحد في البقاء، فتلك ان تركت كما أثبت التاريخ العربي المحطم أنها كارثة كان ثمنها حاضر الشعوب ومستقبلها، والمستقبل يجب أن يتم التأسيس له بشكل مختلف لأن الماضي والحاضر لم يخلف سوى أكوام من الخراب كما قال مبارك بنفسه ...!!!