الدور الغزي في المعادلة الفلسطينية

حسين حجازي
حجم الخط



نعرف الآن انه لا اتفاق وشيكاً سوف يعلن عنه غداً بين حركة حماس التي تحكم غزة فعلياً وبين إسرائيل. لم تنضج الطبخة التي تجري على نار هادئة تحت الطاولة وفقاً لما أوضحه المتحدثون باسم "حماس".

لكن هل هذا النفي او ضغط القدم على الفرامل الإعلامية هو جزء من التأكيد على الحقيقة بتأكيد بطلانها كنوع من المناورة التفاوضية لإنضاج هذا الاتفاق الذي يجري تحت الطاولة، اذا كان هذا الكتمان الذي يشي بعدم الاستعجال هو بحد ذاته رسالة لتحسين شروط المفاوضة؟. 

لندع الأحداث تكشف عن سترها وحقيقتها من تلقاء ذاتها كما يقول سوفوكليس في مسرحية "أوديب ملكا"، ولكن ما نعرفه او يجب ان نعرفه حتى ذلك الوقت ومنذ الآن، هو ان ثلاث حروب ضارية بين إسرائيل و"حماس" على حدود غزة انضجت الغزيين كما "حماس" والإسرائيليين لتقبل هذا السلام المنفرد بين غزة وإسرائيل. وانه اذا كان قدر غزة منذ القدم ان تتحد مع قرينة اكبر منها، تتحد معها لأجل الخروج من عزلتها الجغرافية، فإنها تجد هذه القرينة مرة أخرى بالبحر. 
وقد كانت في زمن الإمبراطور الروماني هدريان هي الميناء التي تصل روما ببلاد الشام، وهكذا اليوم فإن هذا الاتفاق هو الميناء. ولكن هذه المرة لوصل غزة بالعالم الخارجي وجعلها مدينة مكتفية بذاتها، وليس كما حلم حتى بالأمس في العام 1987 شمعون بيريس لتكون بمثابة قناة سويس موازية ترتبط بخط ترانزيت مواصلات يصل الى العقبة والخليج العربي.

ما يجب ان نعرفه ثانياً ان هذا تحقيق  مبتكر وفريد لأمنية رابين قبل ثلاثين عاما، الذي قال لو أنني أصحو من النوم وأرى غزة تغرق في البحر. لتغرق اذن غزة في بحرها وثرائها الجديد ونعمة السفر لشبانها، بحثاً عن العالم الجديد المكتشف والمسحور، كما هجرة الأميركيين هروباً من أوروبا الى العالم الجديد، وبناء جنة عدن. 

ليغرقوا في رحلتهم الجديدة في أحشاء البحر بوصف البحر هو الذي يرمز الى الخافية الكبرى، ولينسوا وهم في غمرة هذه المغامرة الكبرى الولوج في باطن الحوت او تلافيف العقل الباطني، سنوات الحصار والضيق وضنك العيش والقصف والحروب وتدمير البيوت فوق رؤوسهم والبطالة، وحتى حر هذا الصيف القائظ. لينسوا كل ذلك ولينساهم العالم ولو الى حين في شريط الأخبار.

وكل ذلك يتحقق كما لو أننا في زمن النبي موسى بعصاه السحرية، هي عبارة عن ميناء عائم حتى ليبدو بالحق بنيامين نتنياهو متفوقاً على نفسه، قبل ان يكون بالفعل هو أذكى من أسلافه الأغبياء.
ها نحن نقترب من الوصول الى عتبة تحول استراتيجي آخر في المشهد الفلسطيني، قد لا تقل في دلالتها وأهميتها عن الخروج الفلسطيني من لبنان وعقد اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية نفسها. فما يجب ان نعرفه ثالثا ان غزة لم تعد الآن ميدان الصراع القادم او المقبل، وأظنها ما كانت ولن تكون مفتاح البلاد في هذا الصراع الأكبر اذا استعرنا مفهوم كلاوزفيتز أبو الاستراتيجية ونظريتها التقليدية. ان غزة يمكن ان تكون منصةً او قاعدة او موطن لجوء او مصدر إشعاع لفكرة كما منطلق وميدان للحرب والهجوم. لكن غزة ليست هي ميدان الحسم ولا كلمة الفصل.
هل هو إذن الانفصال الذي يعقب الفشل في إنهاء الانقسام ويبلغ هذا التفكك او المسار ذروته في هذا الخروج او الاستقالة من الصراع ؟ كأنما هذا يشبه في إيحائه النفسي على المستوى الجمعي نهاية الوهم حول نظرية الخلاص من الخارج، بخروج عرفات من بيروت. وبالتالي أيتها الضفة ويا قدس علموا أنفسكم بعد الآن كيف تقلعون شوككم بأيديكم، وتتخلصون من روث الاحتلال. وهيا يا أبا مازن الى عقد المؤتمر الوطني العام للمجلس الوطني، لكيما يصار الى اتخاذ القرارات المصيرية فيما يتعلق بوجهة السفر وخارطة الطريق من الآن.
كلا ليس هذا هو ما يصار.
لكنكم لو تذكرون أننا لاحظنا هنا منذ وقت بأن ما يصار وهذا ما يجب ان نعرفه رابعاً ونسلم به، هو أننا دخلنا منذ بعض هذا الوقت  في تحول خفي قوامه تغير قواعد الاشتباك الوطني او الإجمالي العام يلائم الاستراتيجية مع واقع الحال. وقد أسميناه قتال الأمر الواقع متعدد الجبهات او ميادين ومساحات هذا الاشتباك، بحيث تبدو حروب غزة على حدة وحروب المقدسيين على نفس النسق وحروب الرئيس على مساحة المسرح العالمي، هي الناظم او الإطار المشترك. 
انها حروب خضر عدنان ومحمد علان في هذه السلسلة المتعاقبة والتي لا تنتهي او تتوقف من المبارزات الفردية، تتشكل منها البطولة الفردية الإطار الجامع لبطولة الفلسطينيين وكرامتهم الوطنية. بطولة الأفراد بوصفهم المواطنين الأحرار كما بطولة المدن البطلة، أكانت معركة الكرامة وبيروت في الماضي او غزة اليوم كما القدس والخليل وحتى تلك الخربة النائية في الأغوار.

هذه غزة ليست مفتاح البلاد، هي عنوان للبطولة والعنفوان ومصدر الإلهام، هي الحصن المنيع العصية على الانكسار، لكنها ليست مفتاح عقد السلام كما حسم الصراع وقد شرحنا الأمر. وها ما يجب معرفته خامسا من ان هذا السلام كما الحسم انما من خاصرة الرمح من الوسط لا من رأس هذا الرمح، من الشمال مع حزب الله ومن الجنوب مع "حماس" وغزة.

والذي يحدث هو ذروة أخرى في سيرورة هذا الاشتباك متعدد الجبهات في استراتيجية طويلة الأمد، حربية أحياناً ولا حربية مرة، سلمية أحياناً وغير سلمية، وما يجري الحديث عنه من هدنة او اتفاق انما هو جزء من هذا السير على المنحنيات.