قبل ثلاثين عاماً، افتتح مارسيل خليفة مهرجانات بيت الدين في أعالي جبال لبنان، فكان صوته نشيداً في وجه أزيز الرصاص ودويّ انفجارات الأطراف المتناحرة. حين كان لبنان برمّته مقسوماً بين طوائف وأحزاب ومناطق وأحياء، اختار مارسيل أن «يُسجّل» عروبته، فغنّى الوطن والأرض والأم والعروبة وفلسطين. وفي وقت كان كلّ زعيم يُخاطب جماعته، وقف خليفة على خشبة المسرح الشهابي مخاطباً الوطنيين والفقراء والبؤساء والمهزومين والمتألمين. فكان حزبه بمساحة «الوطن» العربي ورفاقه بأعداد من نلتقيهم في الضواحي وعلى أرصفة المدن.
ولمّا أرادت لجنة مهرجانات بيت الدين أن تحتفل بـ «30 عاماً» على قيام حلمها الذي بدا مستحيلاً في حينه، رأت أن يكون مارسيل خليفة، شريكها الأول في تنفيذ مشروعها «المغامر» آنذاك، ليكون ضيف شرف برنامجها لهذا العام. لم تتغيّر أشياء كثيرة منذ ثلاثين عاماً. الحرب اللبنانية الكبيرة استحالت حروباً صغيرة، و «العروبة» صارت منفى، وفلسطين غدت أبعد مما كانت قبل ثلاثة عقود. الثبات علّة في بلادنا، لكنّه نعمة في حالة مارسيل خليفة الذي ظلّ وفيّاً لقضيته الإنسانية وفنّه الملتزم. هناك، في «بيت الدين» جدّد خليفة اللقاء مع جمهور أحبّه ورأى فيه رمزاً باقياً من زمن كان فيه العدوّ معروفاً والوجهة واحدة.
«منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي» غنّاها مارسيل مع الجمهور فجاءت أصوات الحاضرين أعلى من صوته، وهم المشتاقون إلى أغنيات كهذه تُعيد اليهم الثقة بأصواتهم وإنسانيتهم وحقهم في الثورة والنضال. وبمجرّد أن ردّد «يا بحرية»، هتف الحاضرون بصوت واحد «هيلا هيلا» وأكملوا الأغنية على أنغام عود خليفة لتنقلب الأدوار ويصير المستمع هو صاحب القول. وهذا الأداء التفاعلي هو ما يُميّز فنّ مارسيل خليفة الذي كسر قواعد المسرح ومواصفات الفنان «النجم» من خلال تقديم جوّ من الألفة والتآخي أو ما يُسمى بـ «وحدة الحال» بينه وبين جمهوره.
فلسطين كانت حاضرة، كالعادة، في حفلته الأخيرة. هتف الجمهور باسمها طويلاً وظلّ صامتاً منتشياً بها. غنّى «جواز سفر» و «لريتا والبندقية»، وقدّم تحية إلى تشي غيفارا وأخرى إلى كمال جنبلاط ومنهما إلى كلّ الثوّار المحقين في العالم. كأنّ خليفة اراد أن يقول إنّ الزمن لم يُغيّر فيه شيئاً، وإن كانت آثاره تبدّت في شيب شعره وطبقات صوته، فأدّى أغنيات للأطفال وأخرى شعبية ساكنة في ذاكرتنا مثل «طاق طاقية» وغيرها. ثمّ أعطى شباب فرقة «الميادين» التي شاركته الحفلة هامشاً واسعاً، بحيث تمكّن كلّ واحد من أعضاء الفرقة أن يُقدّم وصلته على الآلة التي يعزف عليها. لعب ابنه رامي خليفة على آلة البيانو بأسلوب تجريبي يمزج بين التكنو والجاز، مما أعطى الحفلة بعداً آخر عما عهدته حفلات مارسيل. وكذلك فعل ابنه بشار خليفة على الإيقاع، بينما أدّى الكندي جوليان لابرو وصلة جميلة على آلة الأكورديون وإسماعيل رجب على الكلارينيت وحسن معتز على التشيللو.
اغتنم مارسيل مناخ جبال لبنان الجميل وسكون الليل واندماج الحاضرين معه، فقدّم «قصيدة حبّ»، من دون موسيقى، بدلّت جوّ الحفلة ومشاعر جمهورها من «الهيصة» والانفعال إلى هدوء بديع نقل الجميع من حالة إلى أخرى.