ينحاز كثير من المثقفين العرب إلى رؤيتهم النظرية وقنعاتهم الثورية دون ربطها بالواقع، بل يواصل البعض هذا الانحياز رغم ما تظهره الايام من وقائع وحقائق جديدة على الأرض.
لذلك فشل كثير من المثقفين في اتخاذ موقف صحيح من أحداث سوريا، ولم يرى خطورة أن يشن العالم حرب ضد دولة عربية، تدمرها وتهجر اهلها. واستمر المثقفون في انحيازهم الى جانب حق الشعب السوري في الحرية والثورة في وجه الدكتاتورية والقمع، دون رؤية أو تقدير خطورة هذه الثورة ونتائجها في ظل التدخلات والأهداف الإقليمية والدولية.
كما فشل كثير من المثقفين في رؤية خطورة الإسلام السياسي في فلسطين، واستخدامه الفظ للدين والمقاومة، وانعكاس ذلك بالسلب والتدمير على القضية الفلسطينية ووحدة شعبها واداتها السياسية.
ما قام به بالأمس أعضاء حزب التحرير الإسلامي في الضفة والقدس، من خلق حالة من البلبلة والانشقاق بين الشعب واظهار السلطة بمظهر الضعيف، قد لا يثير تساؤلات كثير من المثقفين ولا يدفعهم الى محاولة رؤية عمق وجوهر هذه الفعلة/المؤامرة، وامتداداتها وعلاقاتها مع كل ما يجري في المنطقة من أحداث سياسية تحاول في جوهرها تهميش السلطة الوطنية الفلسطينية وإظهارها بالعجز وعدم القدرة على حكم الشعب، كما زعم بذلك مؤخرا، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر، الذي قال: أن الفلسطينيين "غير قادرين" على إدارة أنفسهم بشكل مستقل عن إسرائيل.
وهنا لا بد أن يطرح سؤال، لماذا لم يقم حزب التحرير الإسلامي بنفس الفعل في غزة ويعلن عن بدء العيد مخالفا اهل الحكم هناك. قد يعزو البعض هذا إلى قوة وشدة القبضة الأمنية لحماس في وجه معارضيها ومخالفيها، فما حصل للدكتور عبداللطيف موسى وجماعة بيت المقدس مازال ماثلا للعيان، وما تعرض له شباب حراك بدنا نعيش مازال طازحا لم تنساه الذاكرة. لكن في الحقيقة أن الأمر يتعدى هذا السبب، ويؤكد أن الهدف التخريبي لهذا الحزب موجه في هذه اللحظة ضد السلطة الوطنية، ومن اجل خلق بلبلة وشق صف الصامدين المدافعين عن الاقصى في وجه اقتحامات المستوطنين، هذا كله يحدث في اطار الهدف السياسي العام التي يخطط له المعلم والممول؟. وهنا ايضا ستجد بعض المثقفين يناحزون لفكرتهم الأصلية حول حرية التدين والعبادة، ويدينون تصدي قوات أمن السلطة لأعضاء حزب التحرير، دون أن يروا خطورة هذا الفعل على حاضر ومستقبل الشعب والسلطة، ودون أن يتعظوا من درس الحركات الإسلامية وما تفعله وما سببته وتسببه من رهن للقضية للاجندات الخارجية؟!.
ان حزب التحرير مثله مثل باقي الجماعات الدينية المختلفة بالفكر والهدف والوسيلة، جميعهم لن يحقق على الارض الا امراً واحداً، وهو التجزئه والانقسام المجتمعي، وجميعهم يشكل خطراً على مجتمعاتهم من داخلها اكبر من اي خطر يأتي من خارجها.
اليوم، ينحاز المثقفون العرب إلى ثورة شعب السودان السلمية والنبيلة، وهذا شيء ايجابي. لكن كثير منهم يسدون النصح لهذه الثورة بضرورة الصمود والمواصلة، دون التدقيق في ما وراء هذه النصيحة، في ظل الصراع الاقليمي والدولي على ارض السودان، وميزان القوة المختل على الأرض، والآثار السلبية لاستمرار وطول مدة هذه الثورة على الحياة المدنية. ان عدم ادراك معنى إصرار الجيش والقوى الإقليمية التي تقف من وراءه وتعمل من أجل إنهاء هذه الحالة وعدم الرضوخ لكل مطالبها، قد يؤدي إلى صدام حتمي طويل على طريق اشعال حرب أو حروب اهلية، تستخدم وتستغل كل تناقضات السودان والشعب السوداني في إذكاء نار هذه الحرب....
ان ما حدث في الايام الأخيرة من اعتداء الجيش ومواجهة الجماهير بالعنف المسلح، والرد على ذلك بتمرد بعض الوحدات العسكرية في نواحي الخرطوم المختلفة، كما تدعي الاخبار، ينذر بالشر القادم الخطير؟
يقدم الكاتب الفلسطيني طلال عوكل تحليل دقيق لحالة الوضع في السودان والخطورة التي وصل اليها، حيث يقول في مقاله المنشور حديثا في صحيفة الايام الفلسطينية "لن يطول الأمر، حتى تفضي حالة التخندق من قبل الطرفين: الثوار والعسكر، إلى صدام خطير، من شأنه أن يعرّض البلاد إلى ذات السيناريوهات التي مرت بها بعض الدول العربية، وبما يخدم المخططات الأميركية الإسرائيلية، التي لم تعد خافية على أحد في المنطقة أو خارجها". الا ان هذا الكاتب، وفي نفس المقال، لا يلبث ان يطالب الشعب بأن يفرض إرادته، فيقول: "ما يضع الشعب السوداني أمام مسؤولياته التاريخية، ليفرض إرادته، حتى لو كلفه ذلك ما كلف من أثمان"، ويواصل في احد تعليقاته على منتقديه "على قوى الثوره ان لا تستسلم وأن تقاتل من اجل مستقبل افضل للشعب".
السؤال الذي يجب طرحه هنا ما معنى أن يفرض الشعب السوداني ارادته، وما معنى أن تقاتل قوى الثورة؟ هذا لا يعني الا دعوة صريحة للشعب لمواجهة الجيش، ويعني أيصا تأييد الانشقاقات داخل الجيش، والصدام بينه وبين الشعب، والتقاتل بين وحداته المختلفة بحجة الدفاع عن الشعب ومصالحه وحمايته من بطش العسكر.
باختصار هذه دعوة الى الحرب الأهلية، شئنا ام أبينا، خاصة في ظل الأيدي الإقليمية والدولية التي تحاول أن تعبث في السودان وشعبه وتحوله إلى أشلاء مفتتة؟! فهل هذا من مصلحة الشعب السوداني؟
صحيح ان الواقع يدفع نحو الصدام، وهذا باين للعيان، لذلك، هذا يحتم على قوى الثورة أن تتراجع الف خطوة إلى الخلف، وتبحث عن حلول وسط مرضية، وانجازات مهما كانت بسيطة فهي افضل ألف مرة، في ظل موازين القوى وحجم التدخل الإقليمي والدولي، من الولوج في حرب اهلية لا تبقي ولا تذر. الحرب الأهلية ان بدأت في السودان لن تتوقف ولن تجد من يستطيع انهائها، ولن تقتصر على السودان بل ستمتد إلى الإقليم وتستمر الف عام وعام.
الدرس السوري والليبي وووو مازال طازجا، ومن لم يطالعه في الكتب يستطيع سماع مأسيه من عشرات آلاف السوريين المشتتين في اصقاع العالم الاربعة، وصولا الى مختلف أنحاء وقرى ونجوع ومدن واطراف السودان.
ان الواقع يقول بوضح انه في ظل هذا الوضع العربي المهترئ والمعقد، وفي ظل ضعف القوى المدنية المنظمة، وتغول قوى الثورة المضادة، العسكرية والمدنية، وسهولة التدخل الخارجي، الإقليمي والدولي، يصعب قيام ثورات اجتماعية ديمقراطية محلية، دون أن تتعرض الى التدخلات الخارجية والركوب عليها واستغلالها وتوجيهها من القوى الرجعية المنظمة، محليا واقليميا، التي تحرفها عن أهدافها الشعبية، وتجعل منها مدخلا للصدام مع قوى ومؤسسات الدولة والسلطة المتنفذة، وصولا إلى الحرب الأهلية.
ان الطريق الاسهل والاجدى للشعوب والقوى الوطنية في ظل هذه الظروف والعوامل السائدة هو النضال الوطني الديمقراطي المطلبي والتنمية الاقتصادية والبشرية، وتطوير التعليم وإصلاح القضاء، والمطالبة بالانتخابات وتدوال السلطات، بعيدا عن شعار ووهم اسقاط السلطة. هذه خطوات هامة وضرورية نحو تطوير البلاد والحصول على الحقوق بالتدريج، في ظل انسداد الأفق أمام قيام ثورات شعبية وطنية.
ان الأفكار مهما كانت نبيلة وثورية الا انها قد تكون ضارة وغير صحيحة، ان لم ترتبط بدقة ووضوح، بالواقع، المحك الحقيقي لفحص صحة ونجاعة الأفكار والشعارات، إضافة إلى أهمية معرفة موازين القوى معرفة دقيقة ووواقعية، والأهداف الحقيقة لكل الأطراف من وراء الشعارات والاهداف التي ترفعها وتنادي بها.
